الجزءالسادس والاخير من حياة الملفان بولس بهنام المفقودة بين طيات الزمن

أضف رد جديد
تلميذة المطران
مراقب عام
مراقب عام
مشاركات: 114
اشترك في: الخميس إبريل 28, 2011 11:53 am

الجزءالسادس والاخير من حياة الملفان بولس بهنام المفقودة بين طيات الزمن

مشاركة بواسطة تلميذة المطران » الخميس سبتمبر 29, 2011 10:27 pm

"قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعى حفظت الإيمان وأخيراً قد وضع لى إكليل البر"(2 تى 4: 7 ، 8)
صورة

مضت سنة مكوثه في ابرشية القدس صعبة ، قاسية ، متعِبة ، ذلك أن هذه الابرشية كانت شاغرة منذ عام ١٩٤٩م . فكان عليه قبل كل شيء ان يُنظم أمور الدير اولاً ، إذ يقول بهذا الصدد برسالة مؤرخة بتاريخ ٢٠ـ ١ ـ ١٩٦٢ ما يلي : " الى الآن لم أُرتب ما يجب ترتيبه ، وطبعاً سأُلاقي بعض التعب ، ولكن الله سيساعد أن أقوم بالمهمة خير قيام " .
ورغم كل الصعوبات التي لاقاها هناك ، فلقد حرص كل الحرص على ان يُنقي الدير من جميع الشوائب والخيوط المنسوجة حوله كما ينسج العنكبوت ضفائرهُ حول بستانٍ جميل ، او ان يطوق بحباله جيد وردة شامخة ليخفي عبيرها المنعش………..
ففتح المدرسة الاكليريكية ، وأهتم بالاوقاف ونظم جميع امورها مع الحكومة فيقول في رسالة وجهها الى المطران اسطاثيوس قرياقس مطران الجزيرة ورئيس لجنة الاوقاف عن هذا الامر ما يلي : " كونوا على ثقة إني لن أُفرط بشبر واحد من أرض الوقف مُطلقاً ، وذلك أحتراماً للتراث الذي أحرص على الحفاظِ عليه كل الحرص ." وقبل انصرام بضعة اشهر من إقامته في ابرشية القدس ،قام المجلس الملي بأرسال رسالة الى البطريرك يطلب الملفان بولس مطراناً شرعياً لأبرشية بغداد . إلا ان البطريرك تمسك بقرار المجمع بوجوب خدمته في ابرشية القدس المدة المُعينة ، وطلب مضبطة كاملة لعرضها على المطارنة ثم تعيينه مطرانا شرعيا لأبرشية بغداد . فما كان من المجلس الملي إلا ان بعث رسالة شديدة اللهجة بتعيين الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام ( مطراناً شرعياً لأبرشية بغداد ) ، مصحوبة برسالة من الجمعية الخيرية في بغداد لنفس الغرض .فخضع البطريرك لرغباتهم ، وهكذا عاد ملفاننا الحبيب ليلتحق بابرشيته الجديدة ، وكان ذلك في شهر تشرين الثاني ( اوكتوبر) ١٩٦٢ . وهو المطران الاول الذي جلس على كرسي ابرشية بغداد منذ تلاشيها في القرن الثالث عشر .
أستقر علامتنا في كنيسة العذراء ( البتاويين) في بغداد وسكن في غرفة صغيرة تحتوي على حمام ومرافق غاية في البساطة . أما في الطابق السفلي كانت هنالك غرفة صغيرة عاش فيها والديه الضريرين …. فكُنتَ تسمع وقع أقدام ملفاننا القديس وهو يهبط الدرج المؤدي من غرفته المتواضعة ليتفقدهما ليلاً ويُغطيهِما ، ليعود أدراجه الى صومعته ، يواصل التأليف والترجمة . كان نور صومعته المنبعث من النافذة الصغيرة يُنير جنبات الدرج الضيق ، حتى يختلط بخيوط الفجر الاولى ، لينزل الكنيسة ويبتدأ صلاة الصباح ، فيرفع البخور. كنت تراه وهو يُصلي من الاعماق ويسكب ذاته بأنسحاقٍ أمام الرب ويذوب في حضرته ، فتحس حينها ان السماء مفتوحة وجنود الملائكة يسبحون الله ، وانك بشركة حقيقية وعميقة معه . عاش هذا الملفان العظيم حياة شديدة الزهد والتقشف ، في المأكل والملبس والمسكن . وعلى الرغم من حالته الصحية الخاصة ، لم يستدع احد لطهي الطعام بل كان قواصه الخاص ( الشخص الذي يقوم بخدمة المطران ) ، والذي كان يدعى بهنام يستقل المواصلات العامة ليجلب وجبة مطراننا الحبيب من منزل اخيه ، فتصل اليه باردة لطول المسافة بينهما . كان يرفع عينيه الوديعتين نحو السماء ليصلي ويشكر الرب على نعمه .

كان علامتنا يعلم بأن مشواره على هذه الفانية كمشوار الزهور ، قصير وكما يقول في " انشودة الربيع " :" إن للزهر حياة لا تطول……وازدهار الروض حلم لا يدوم " ، لذا كنت تراه يُسابق الزمن في كل شيء ، الخدمة بأنواعها إنسانية كانت ام كنسية.. مستمراً في التأليف ، و تدبيج المقالات والترجمة والوعظ .. سمعناه اكثر من مرة يُشير الى هذا الامر .. يقول في إحداها : " وإني اسأل الله أن يُعطي في العمر فُسحة ، لتظهر غداً وفي القريب العاجل إن شاء الله ( دائرة المعارف السريانية ) ، من قلمي وحدي لتكون خاتمة المطاف لجهادي في سبيل الكنيسة السريانية والعقيدة الارثذوكسية " . أما سبب يقينهُ هذا ، أخبرتنا والدته المرحومة (نجمة جرجس الخوري يلدا) ، عندما كان راهباً في كنيسة الطاهرة(الموصل) ،حدث وان مرض فأستدعوا الطبيب الذي جلس على كرسي بجوار سريره ، وبعد خروج الطبيب ، ذهبت والدته لتتفقده ، فسمعته يتكلم ناظراً الى الكرسي الخالي ، فلم تدخل حتى انهى كلامه ، ثم دخلت وسألته : " ما بالك بني ، خرج الطبيب منذ اكثر من خمسة عشر دقيقة !!! مع من كنت تتكلم إذاً؟؟؟ أجابها .." أُماه رأيت رب المجد ، جلس على هذا الكرسي ، ولو لم تسمعيني اتحدث لما أخبرتكِ " ، لم يروِ لها عن اية تفاصيل ، فالرب لم يُصرِح لهُ بذلك ، بل أخبرها بانه ابلغه وقت رحيله الى عالم الخلد… أما المرة الثانية فانه رآى بالروح علامة السريان مار غريغوريوس ابن العبري ، أبلغه بانه سيرتقي الى رتبة (اسقف) ، لكنه لن يصبح بطريركا ، وبأن عمره سيكون قصيرا مثله ايضا . فأبتدا بمشروعه الكبير ( دائرة المعارف السريانية ) ، باللغة الانكليزية ، والتي كان يُجيدها ويتكلم ويخطب بها بسلاسة . انجز الحرف الاول فقط " A " فمشروع ضخم كهذا يتطلب سنوات عديدة لأنجازه كما أخذ كتاب " اللؤلؤ المنثور" من الخالد الذكر البطريرك الطوباوي مار افرام الاول برصوم ما يقارب النصف قرن في سبيل إنجاز مؤلفه النفيس هذا . أجل واحسرتاه .. لقد رحل وترك حلمه يتيماً ، حيث كان " كالسوسنة بين الشوك " ذلك المقال الذي دبجه يراعه الفذ وكأني به يصف حاله في هذه الحياة فيقول : " هي وحيدة ، وواحسرتاه ، بين تلك الأنياب الجارحة ، وقد صوبت الأشواك سِهامها الى قلبها الغض تُريد أفتراسه قبل انبلاج الصباح …." لكن عزائي الوحيد ان سوسنة كنيستنا السريانية النقية البياض تقول عن لِسانِ حالها ، وكانهُ يواسيني ويرُد على أسئلتي التي طالما أرقتني ، ووخزت قلبي باشواكها الجارحة : "وإذا كانت هذه الاشواك والاحساك تستطيع تطويق جيدي الجميل ، فهي لا تستطيع ولن تستطيع أن تُخفي عبيري المنعش… " . واليوم اقول لك : نم قرير العين سيدي! فأمثالك لايموتون ، فسيبقى عبيرك يُعبق نفوسنا ، ونورك يلمع في قلوبنا ، وكلماتك تُغذي افكارنا ، ومؤلفاتك الثمينة ، نبراساً منيراً في سماء العلم والمعرفة والروح والحق ، وهذا لعمري لهو " شأنُ الخالدين " ، أولئك الذين ضحوا بانفسهم وانكروا ذواتهم ، حباً للذي هو النور.. والحق.. والحياة .

ومن اعماله في أبرشية بغداد إنه شيد بناية وقفية خاصة بالكنيسة ، واقام فيها ( مدرسة السريان الارثذوكس الاهلية)، وذلك بما تبرع به المحسنون من ابناء الطائفة من مبالغ نقدية ومواد عينية . وعزم على تشييد ملجأ على القطعة المجاورة للبناية المُشار اليها ، لكنه لم يحصل على إجازة للبناء من قبل امانة العاصمة . وعلى عهده بُنيت كنيسة الرسولين مار بطرس ومار بولس للسريان الارثذوكس .
كان قد ابتدأ بمشروع إنشاء مستشفى أهلي تابع لكنيستنا في بغداد ، وطرح الفكرة لدى زيارته الى جنيف فلاقت عطفاً وقبولاً من مجلس الكنائس العالمي هناك ومؤسسة كولبانكيان إثر شرحه الفكرة لدى هذين المشروعين الخيريين العالميين . فتبرع المرحوم حميد نوارة بقطعة الارض وابتدؤوا بحفر الاساسات وقد قال عن هذا المشروع : " يسرنا ان نقول إننا أطلقنا على المستشفى اسم أبرز اطبائنا القدامى فسميناه ( مستشفى أبو الفرج ابن العبري ) تبركاً بأسم مفرياننا الطبيب العظيم مار غريغوريوس ابن العبري الذي له أعظم الافضال العلمية والعملية على كنيستنا ، بل على بلادنا هذه ، فمن عرفان الجميل أن نتبارك بأسمهِ الجليل هذا " . غير ان المنية عاجلته ولم تمهله لتكملة مشروعه الانساني هذا .
ولقد وعد البطريرك يعقوب الثالث في كلمته التابينية عند انتقال مار بولس بهنام بانه سيكمل هذا المشروع الانساني العظيم ، وبانه سيطلق عليه اسم " مستشفى مار غريغوريوس بولس بهنام " لكنه لم يفعل ... ثم شُيدت مكانها لاحقا كنيسة مار متى في بغداد .

قام برحلات علمية وحضر مؤتمرات عربية وعالمية من ضمنها نذكر ما يلي :

١ ـ في سنة ١٩٦١ قام المجمع الكنسي بتعيينه رئيساً لوفد كنيستنا لحضور أجتماعات الكنائس في بلاد اليونان في جزيرة رودس ، حيث افتتح الاجتماع في ٢٦ ـ ٩ ـ ١٩٦١ . كان المؤتمر الديني الذي حضره عظيما جدا والقى خلاله كلمة باللغة الانكليزية وقد اثرت بالحضور تأثيرا بالغا . ضم هذا المؤتمر المئات من مطارنة العالم الارثذوكسي الذين حضروا من سائر انحاء الدنيا ، وقد مثل الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام كنيستنا أحسن تمثيل . اما الكلمات التي القاها بصورة خاصة ، كان بقية الوفود يقتطفون منها عبارات وافكار كثيرة ويوردونها في خطبهم ، وبحسب امانة النقل الادبي كانوا يقولون : " هكذا يقول مطران الموصل " . وكان يرافقه المطران برنابا والراهب صليبا شمعون ، والافودياقون توما الخوري عيسى من لبنان . وقبل نهاية رحلته قام بزيارة بعض المكتبات القديمة ثم توجه الى المانيا ووصلها في ١٧ ـ ١٠ ، ١٩٦١ . كان بضيافة عائلة المانية صديقة له . وفي المانيا زار بعض المكتبات ثم اوصلوه اصحابه الى المحطة
صورة
عائدا الى اثينا ثم الى لبنان فسوريا فالعراق .
٢ ـ في سنة ١٩٦٢ حضر مهرجان الكندي في بغداد ، ، ألقى خلاله مقالته القيمة " بغداد والكندي في التراث السرياني "

٣ ـ في ايار سنة ١٩٦٤ قام بزيارة رسولية للكنيسة السريانية الهندية .
٤ ـ في سنة ١٩٦٥ حضر الجلسة التي عقدها المجمع المقدس في دير الزعفران .
صورة
صورة

ويظهر فيها المثلث الرحمات نيافة المطران ماريوحنا دولباني والمطران سيويريوس زكا عيواص قداسة البطريرك زكا الاول عيواص .
٥ ـ في تموز( يوليو) ١٩٦٥ حضر مؤتمر التسلح الخلقي في سويسرا وبريطانيا ، بدعوة تلقاها من السيد مارشال الجو البريطاني . ألقى مقالته والتي كانت تحت عنوان : اللغة السريانية وآدابها " وذلك في مؤتمر المستشرقين في لندن .واستمرت رحلته هذه حتى ايلول سبتمبر وقد دون رحلته هذه في (المجلةالبطريركية ، مج.٥ ، ١٩٦٦ ، ع .٤٤ ، ص.٢٠٢ ـ٢٠٨ )
٦ ـ في سنة ١٩٦٨ تلقى دعوة من قداسة البابا كيرلس السادس بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وذلك احتفالاً بوصول رفات مار مرقس الرسول كاروز الديار المصرية وكان البرنامج المعد لذلك الحدث العظيم مستمراً من ٢٤ ـ٢٨ حزيران (يونيو) ١٩٦٨ . واعدت الكنيسة القبطية الشقيقة برنامجا خصيصا لزوارها اليك قارئي العزيز نسخة عنه .
صورة
أما مؤلفاته في هذه الفترة فقد كانت كالتالي :
في سنة ١٩٦٧ ترجم كتاب "الايثيقون او فلسفة الآداب الخلقية " للعلامة الكبير مار غريغوريوس ابن العبري ، وطبع بمطبعة الشباب ـ القامشلي ، صدره بمقدمة رائعة تقع في ٩٥ صفحة ، عن فلسفة التصوف منذ نشوء الفكرة وانتشارها في الشرق . ولعُمري ان هذه المقدمة الضافية ، تستحق ان يُفرد لها كتاباً على حدى ، مما لها من الاهمية والقيمة الفلسفية والعلمية . ولقد عَلقَ الاستاذ ميخائيل عواد على هذا المؤلف النفيس ، واليك قارئي العزيز رسالته هذه التي علق بها على هذا العمل الثمين.
الرسالة مكونة من صفحتين

صورة
صورة

كما انه ترجم الى العربية "تاريخ طور عبدين" للمثلث الرحمات البطريرط مار اغناطيوس افرام الاول برصوم .

وفي سنة ١٩٦٨ انهى كتابا اسماه " البابا ديوسقوروس الاسكندري حامي الايمان (٤٤٤ ـ ٤٥٤م) ، ولقد انجز كتابه القيم هذا خلال عشرون يوماً فقط وذلك أثناء مكوثه في مدينة البصرة وإقامته في منزل اخته هناك . وطُبع بعد رحيله على نفقة( اسرة المكتبة الصوتية اللاهوتية) وذلك عام ١٩٧٦م . ونجد إهداء الكتاب مطبوعاً على الآلة الكاتبة قال فيه : " الى أم الشهداء ومُنجِبة النساك والملافنة والعُلماء كنيسة الاسكندرية القبطية الارثذوكسية … مِن اُختها في الجِهاد والتضحية والايمان كنيسة انطاكيا السريانية الارثذوكسية " . ولا اعلم لماذا قد وقع هذا الاهداء ولم يُنشر في النسخة النهائية ، لعلهُ فُقِد سهواً!! ويقول في رسالة بتاريخ ١٧ / ١٠ / ١٩٦٨ وجهها الى الانبا غريغوريوس الاسقف العام للدراسات العليا والثقافة القبطية في هذا الصدد ما يلي : "يسرني جدا ان اقول لكم ، اني منذ الشهر الماضي انهيت بحثاً ارثوذكسياً جديداً ، موضوعه ( البابا ديوسقوروس الاسكندري أمام منبر التاريخ ) ، عالجتُ فيه تنزيه القديس ديوسقوروس من التُهم الباطلة التي أسندها اليه اتباع المجمع الخلقيدوني بطريقة هادئة ورزينة جداً ، واني الآن جاد بتبييضه واخراج بضع نسخ قبل تقديمه الى المطبعة ، ويسعدني اني سارسل نسخة لنيافتكم قبل طبعه لإبداء الراي واني اعتبر رايكم راي الكنيسة القبطية الجليلة ، وستجدون البحث الخاص بوحدة طبيعة السيد المسيح يحمل نفس التعابير التي وردت في بحثكم الجليل الامر الذي لا يدع شكا ان الارثذوكسية هي روح واحدة ."

ثم اصدر كتابا تحت عنوان " أحيقار الحكيم " يقع في ١٨٠ صفحة ، طُبع بمطبعة الشعب (بغداد) ، عام ١٩٧٦م .

وفي تشرين الثاني (نوفمبر) ، أختاره البطريرك يعقوب الثالث لترجمة الكتاب المقدس ، إثر الرسائل التي تسلمها من الاسقف الانبا صموئيل القبطي ، وجمعية الكتاب المقدس . وكتب يقول له : " رأينا ان نرشح نيافتكم لهذا العمل الجليل . لما تتمتعون به من خبرة في تفسير الكتاب المقدس ، فضلاً عن إتقانكم اللغتين السريانية والعربية " .
اليك قارئي العزيز هذه الرسالة .
صورة

كما انه قد سعى لدى وزير التربية في بغداد الاستاذ الدكتور احمد عبد الستار الجواري ، في إطلاق الدروس الدينية المسيحية في الموصل وسنرفق ايضاً رساته الموجهة الى كلٍ من وزير التربية ونيافة مار سويريوس زكا مطران الموصل ( قداسة البطريرك) ليعلمه بالامر .

صورة
صورة

في كانون الثاتي (يناير) ١٩٦٩م ، وبينما كان يزور ابناء رعيته مهنئاً إياهم بمناسبة عيد ميلاد سيدنا يسوع المسيح ، فاجأته نوبة قلبية ، نُقِلَ اثرها الى مستشفى الراهبات( سان رافائيل) ببغداد ، ومكث فيها نحو الشهر تقريباً ، كانت الزيارات ممنوعة تقريباً خشية عليه من الاجهاد . وفي صباح الاربعاء الموافق التاسع عشر من شباط (فبراير) ، جلس ملفاننا العظيم على سريره في المستشفى ، وعلى ثغرِهِ المقدس ابتسامة صافية ، كانت عيناه تشعان بأنوار القداسة وقد لمع فيهما بريق التقوى والفضيلة . مرت إحدى الراهبات للأطمئنان عليه… قالت وقد لاحظت تحسناً ملحوظاً على صحته أنعكس على وجههِ شعاعاً أنار جنبات تلك الغرفة التي تعطرت بانفاس الطُهر والقداسة : " كيف حالك سيدنا ؟ أرى انك أفضل بكثير هذا الصباح … لكن ما تلك الحيرة البادية على وجهك ؟ أتشكو من المٍ ما ؟؟؟ " أجابها لا على العكس انني اشعر بتحسن في صحتي ، لكن اود ان أسالكِ هل لديكم إحتفال ديني هذا الصباح ؟؟؟ قالت له لا !! لماذا يا سيدي ؟قال لها اني اسمع تراتيل تاتي من بعيد !! روت تلك الراهبة فيما بعد انها سألته ما إذا كان خائف من شيءٍٍ ما ؟ اجابها : " ابداً .. اني لا اخشى الموت.. لكنني لم أُنهي مُهمتي بعد! كنتُ اود ان أخدم شعبي بقلمي … لكن لتكن مشيئة الرب … " وروت الراهبة بأن ذلك اليوم هوالاول الذي جلس فيه لتناول وجبة الافطار بمفرده !! ذهبت لاستدعاء الطبيب .. وفي تلك الاثناء دخل "بهنام" قواصه الخاص ، والذي روى لاحقا ما رآه فقال " رأيتُ سيدنا ينظر حولهُ ووجههُ يزدادُ نوراً " فقلت له : " ما بالك سيدنا ؟ هل تفتش عن شيءٍ ما ؟ " اجابني: " لا .. لكنني أرى شمامسة يرتلون تتقدمهم مجموعة من الاطفال يحملون الشموع .. ورائحة البخور عبقت هذه الغرفة ." خرج بهنام ليستعجل الراهبة ، والتي ما لبثت ان دخلت الغرفة بصحبة الطبيب … فوجدوا علامتنا القديس مُتكأًً على وسادته وقد فاضت روحه الطاهرة ، وانطلقت لتلحق بأرواح القديسين واسلافهُ الميامين … أنطلقت وهي تنادي مع رسول الامم : " جاهدتُ الجِهاد الحسن ، اكملتُ السعي ، حفِظت الايمان ، واخيرا وضِعَ لي إكليل البِر… " . أجل أغمض ملفاننا الحبيب عيناه اللتان لطالما غاصتا في مسارح التاريخ … ذلك التاريخ العظيم الذي ابدع في وصفِهِ ..ورحلنا معهُ وسافرنا وإياهُ الى ذيالك التاريخ الخالد… وتوقف ذيالك القلم السيال الذي لطالما حَبَرَ لنا تاريخنا المجيد.. وصَمَتَ ذلك الثغر الفصيح الذي لطالما نثر لنا اللآليء الحِسان .. فراينا ملافنتنا القديسين وابطالنا الشجعان وشعرائنا الميامين ، وسمعناهم ، بل واستنشقنا عِطر مجامرهم المتقدة بنور الايمان والمعبقة بشذى القداسة .. أجل أحبائي ..لقد صمت ذيالك القلم السيال ، لكن في صمته الف شعرٍ ..والف قافية..والف نشيد .. توقفت تلك الحنجرة الجبارة التي لطالما اعتلت المنابر تخطب بما جادت بهِ قريحتهُ الوقادة وفكرهِ الخصب. كان خبر انتقاله فاجعة كبيرة ..ورحيلهُ خسارة فادحة للأمتين السريانية والعربية على حدٍ سواء إذ إمتلأت القلوب حُزناً واسىً . نُقِل ملفاننا القديس الى كنيسة مريم العذراء ( البتاويين) .. كانت القلوب خاشعة والعيون دامعة والقلوب دامية .. كنت ترى ذلك المنظر الرهيب.. غصت الكنيسة بالمؤمنين والاكليروس ، وتناقلت وسائل الإعلام والتلفزة خبر الوفاة . وفي الهيكل كان خاله المرحوم الخوري افرام يلبسه حلته الحبرية .. وفي الكنيسة يقف في الصف الاول والداه الضريرين . إذ لم يعلما انه انتقل الى عالم الخلود بل سمعوا ان هنالك قداساً سيقام .. ظنا انه طلبة لفلذة كبدهما بان يشفيه الرب ليعود سالما.. رأينا ما يُدمي القلوب.. والدته التي تبكي وتتشفع بالعذراء(شفيعة الكنيسة) ان يعود ابنها مُعافاً .. ليُكمِلَ مشوارهُ….بكى الجميع عندما سمعوها تقول: " يا عذرا تشفعي عند ابنكِ الحبيب ان يأخُذ حياتي ويُبقيه هو ..ليخدُم كنيسة الرب." ثم ألبسوهُ حُلتهُ واجلسوه على كرسيه ، وامسكوا بيمينه الصليب المقدس ، وبالاخرى عصا الرعية..تلك الرعية التي تيتمت بعد رحيله ..فكنا نسمع اصوات تقول خسارتنا فادحة ..واُخرى تقول :"الآن تيتمنا بصحيح ، رحل من عبَرَ بنا الى ميناء السلام" مشيرين الى دعمه اياهم ومساندته لهم حينما فقدوا والدهم الحقيقي عندما كانوا اطفال ومار غريغوريوس تكفل برعايتهم الى ان كبروا وتخرجوا من احسن الجامعات . اما الشيخة "نجمة" والدة الملفان صرخت بصوتٍ عظيم عندما أدركت إنه ليس هاهنا وبان روحه المقدسة فاضت لتلحق مواكب القديسين ، وحلقت نحو سماء الحق حيث نفوس الصالحين ، لتكون بصحبة المختارين… اجل بكت بحُرقة لأنه ليس هاهنا ليسلمها بيده الى يوحنا الحبيب ليهتم بها!!! اما أُخته فجلست ارضاً مع بعض النسوة يبكونه.. كان مشهدهم هذا يُذكرنا بمجموعة المريمات والنساء اللواتي جلسنَ عند الصليب يبكين يسوع.

ظل في كنيسة العذراء حتى يوم ٢١ شباط ، اتى لوداعه شخصيات من مختلف الملل ، وكما ذكرنا سابقاً صديقه الشيخ محمد حسن الطالقاني من النجف والذي تعرف اليه باحد المؤتمرات ، وعقدت بينهما أواصر صداقة ، يقول هذا الشيخ رحمه الله : " عندما سمعت بالمذياع خبر وفاة اخي وصديقي العزيز أهتزت الارض تحت قدميَ ، ولا أدري كيف وصلت الى كنيسة البتاويين ؟ " ، ولدى وصوله الكنيسة وقف في الباب والكنيسة تغصُ بالمؤمنين ، ورأى ملفاننا الحبيب جالسا على كرسيه ، فقال : " الحمد لله ان الذي سمعتُ خبر نعيه ليس هو .." ثم تقدم قليلا وسأل : " من الذي مات إذاً ؟؟ أجابوه المطران بولس .. فواصل تقدمهُ وسط وجوم الناس وتمتماتهم .. تُرى مالذي حمل شيخا مسلما ان يأتي ويدخل الكنيسة اما هو فسار مذهولا ووصل حيث الجثمان الطاهر وقبله .. ثم جثا على رُكبتيهِ مخاطباً إياه قائلاً : " ايصمت اللسان الفصيح ؟ ايقف العقل الجبار؟ اينكسر القلم السيال ؟ أنطق يا مطران بولس فأن شعبك بحاجة ماسة الى كلماتك !.." وأخذ يجهش ببكاءٍ عميق . وفي السنة التي تلت وفاة المطران بولس بهنام ، ذهب الطالقاني الى بريطانيا لحضور احد المؤتمرات ، وكان اعضاء المجمع قد وقفوا حِداداً على رحيل تشرشل ، ثم قال احد الحاضرين ان بريطانيا لن تُنجب رجلاً كهذا إلا بعد مئة عام .. اما الطالقاني فقال :" ستُعقم نساء السريان عدة قرون حتى تُنجب بولس ثانٍ " .وعندما سمع كلمات الرثاء التي أُلقيت بذكرى علامتنا الجليل قال : " كان على المطران بولس بهنام ان يكتب كتاب تأبينه بنفسِهِ ، لإن قلمه هو الوحيد الذي يستطيع ان يوفيه حقه ." أما هو فلقد رثاه بهذه الابيات :
أثكلت الفصحى وناح الهدى……………….. والعلم ينعى شيخه الكاملا
وأحزن السريان فقد أمرءٍِ……………………. كان لطلاب العلا كافلا
(بولص بهنام) خبا نوره………………………وفل سيف هزم الباطلا
وجف نبع ما يزال الشذى…………………… من خصبه في أفقنا سائلا
ودع دنياه وفي ثغرهِ………………………….. بشر يناغي حبه العادلا
وغاب عنا كوكب نير………………………………..رفقا بنا يا نجمه الآفلا
عرا الأسى بغداد أرخت بل ………………………… قد فقدت مطرانها الفاضلا


جاء المؤمنون زرافات ووحدانا للتبرك منه ولتوديعه ولا بد ان نشير الى معجزة حصلت في هذا اليوم ، فلقد جاء احد ابنائه لتوديعه مصطحباً والدته التي كانت تعاني من الم في الفقرات نتج عنه انحناءاً في ظهرها ولكنها أصرت ان تودعه الوداع الاخير ، فيقول جائت والدتي وبالكاد استطاعت ان تُقبل يده المباركة وصليبه المقدس ، وما ان فعلت ذلك وحاولت ان تقوم حتى عاد ظهرها مستقيما كالسابق ومجدت الرب .
ونشير الى المعجزة التي بعث بها الاب يوسف البناء الى موقعنا ننقلها كما ارسلها هو بنفسه قال:" مايو، الساعة 04:54 صباحاً إبلاغ
.معجزة حصلت بصلوات المطران بولس بهنام :
في الخمسينات من القرن الماضي كنا نسكن منطقة خزرج في الموصل ، وقريب منا كانت تسكن عائلة من الأهل، الرجل اسمه حنا عبد النور والمرأة اسمها مريم.
مريم كان لديها عدة أطفال، ولديها طفل صغير تمرض ومات، فجاءت مسرعة إلى ماما (والدتي إيلي) وهي تبكي وقد حملت الطفل المائت وقالت :: إيلي .. إيلي .. ابني مات وهو غير معمد ..وما أعرف أش أعمل!!!، والدتي أخذت الطفل المائت من مريم وانطلقت فورا إلى كنيسة مار توما، ودخلت إلى المطرانية وسألت عن سيدنا المطران بولس، فخرج من قلايته سائلاً : ما المشكلة يا ابنتي إيلي ؟
أجابت ماما : سيدنا هذا الولد مات وهو غير معمد !! قال لها سيدنا المطران : انزلي يا ابنتي به إلى الكنيسة وانا قادم لأصلي على جثمانه.
نزلت الوالدة إلى الكنيسة ومعها مريم وجثة الطفل ووقفت في باب المذبح ، ونزل سيدنا المطران بولس ودخل إلى المذبح وتناول الصليب ، ورفعه بيده اليمنى على والدتي وهي تحمل الطفل المتوفى.. وبدا يصلي بانكسار ودموع .... وإذا بالطفل يفتح عينيه ويصرح باكيا !!! اندهشت والدتي ومريم ام الطفل وذهلتا فرحا ..
اما المطران بولس فقال : المجد لله .. يا ابنتي انه إيمانكم الراسخ بالمسيح .. ثم عمد الطفل وعادوا فرحين إلى البيت وهم يسبحون الله...
طبعا مريم وحنا عبد النور هاجروا من الستينات إلى أمريكا، وأتمنى هم (إن كانوا أحياء) أو الطفل نفسه أو إخوته إذا يقرأون هذا (هم رجال الآن) .. يتصلون بنا عن طريق محبي المطران بولس.
الشكر للرب.
القس د. يوسف اسطيفان البناء
كاهن كاتدرائية مار أفرام السرياني في الموصل
الثلاثاء 24 أيار 2011م.
ثم يعود فيرسل لنا صورة والدي الطفل الذي عادت اليه الحياة بشفاعة وصلوات ملفاننا الجليل .
صورة
فيُعلق الاب الفاضل يوسف البنا عن هذه الصورة بما يلي : "حنا عبد النور وزوجته مريم في بداية حياتهم الزوجية ؟؟ في الأربعينات من القرن الماضي.. وهما والد ووالدة الطفل التي ذكرنا معجزته على يد المثلث الرحمة الملفان المطران بولس بهنام وكما ذكر ابونا جورج البنا أن حنا عبد النور يعيش في ديترويت وأعتقد ان زوجته مريم قد توفيت .


والمعجزة الثالثة يرويها لنا ( الخوري توما صوفيا ) صهر الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام ، والتي حصلت معه شخصياً فيقول : " كنتُ في بلغاريا لغرض العلاج ، وبينما كنتُ عائداً الى اثينا بالقطار ، أحسستُ ان شيئاً ما قد تمزق في ظهري ودخلتُ في حالةِ إغماء ، فرأيتُ بما يشبه الرؤيا كما واني اقف امام قصر كبير . فُتِحَ الباب وإذا بي أرى الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام مع البطريرك مار افرام الاول لابسين الحلة الحبرية وحاملين الصليب بيد والعكاز بالاخرى ، يتقدمهم الالوف من الاطفال .. فوقف مار غريغوريوس وقال لي : لاتدخل الى داخل القصر بل امكث هنا خارجاً .. قل لي ما بكَ ؟ قلتُ له تعبان سيدنا ومريض ، أجابني لا..لا لست مريضاً ودوائك بسيط جداً .. قلتُ له ماهو؟ قال ستجد راهبا لديه سلة مليئة بالزيتون الكبير الحجم والشديد اللمعان محاطا باوراق من العنب والتين .. وفعلا وجدتُ امامي هذا الراهب فأعطاني سبعة زيتونات وتحتهما ورقتين ، وعندما مددت يدي لأُعطيه نقودا قال لي لا نحن لا ناخذ نقود ، وما ان اكلت الزيتون احسست بتحسن كبير وزال الالم ، وأفقتُ عندما حط بنا القطار في محطة اثينا ، نزلتُ وفيما انا محتار اين اتوجه ؟؟؟ سمِعتُ رجُلاً يتمشى في محطة القطار ذهابا وإيابا مردداً بالسريانية كلمة (بارخمور) والتي تفسيرها بارك يا سيد … فاجبتُ (آلوهو امباريخ) اي الرب يباركك ، فتوقف ، وقال لي الحمد لله على سلامتك ابونا ، قلتُ له من انت وكيف عرفتني ؟ اجاب بالسريانية ( إينو دكتور فوتيوس من بيت الحيم ) ، انا الدكتور فوتيوس من بيت لحم .. حلِمت بمطران قال لي غداً تذهب لأستقبال قسيس في محطة القطار ، يجب ان تفعل انه تعبان ، سألته كيف سأتعرف عليه ؟أجاب فقط قل "بارخمور" ، الذي يجيبك هو المقصود ، خذه وأنزله بضيافتك ثلاثة أيام . وفعلا استضافني ثم اصطحبني الى المطار ، بعد ان استردتُ صحتي ، وهذه معجزة أُسجلها ، اعترافا بالجميل ."

نُقل ملفاننا العظيم الى مثواه الاخير في كنيسة مار بطرس وبولس . ومع ذلك لم ينجو بعد وفاته ايضا ، فحدث ان اهدوه في امريكا اربعين قنديلا مطلية بماء الذهب ، وزع منها على الكنائس وبقي ثلاثة ، عند وفاته جائت اخته الى المطران تسأله ان يسمح لها ان تضع الآية القائلة " جاهدت الجهاد الحسن اكملت السعي حفظت الايمان….." وعلى جانبيها قنديلين وصورة له .. أجابها : " اختي الرئاسة العليا رفضت تقول اخشى ان يصبح قبره مزاراً ، وتاتي الناس للتبرك منه !" فقالت له اين المشكلة ؟ انتم ضحيتم في سبيل الايمان والكنيسة ، ليعمل هو ايضا بالمثل ،حتى جاء المطران سيوريوس حاوا ( بعد وفاة البطريرك ) ، وعندما سألته قال لها : " بالطبع اختي تستطيعين ان تعلقي ما تريدين " وعلقت القناديل مع صورة صغيرة له .
وفعلا الكثير من الناس يقولون انهم يتنشقون رائحة بخور زكية لدى اقترابهم من ضريحه المقدس . وفي احد الايام جائت الى الكنيسة سيدة غير ارثوذوكسية ثم قالت لقد رايت شعاعا ينبعث من هذا الضريح !! ضريح من يكون ؟؟اجابوها هنا يرقد ملفاننا مار غريغوريوس بولس بهنام …

بالحقيقة ان هنالك امورا كثيرة غضضنا الطرف عنها ، وقصص متعددة عن العذابات التي قاساها هذا القديس ، وحتى آخر سطر من هذه الصفحة ، تلقيت مكالمة هاتفية من إحدى بنات ومحبات مار غريغوريوس بهنام ، كانت فيها شاهدة عيان ، وكان ذلك اثناء مراسيم التجنيز ، وبعدها ، لكننا أغضضنا الطرف عنها ، كما وإننا آثرنا ان نتصل هاتفيا بأخت المثلت الرحمات مار غريغوريوس بولس بهنام وصهره الخوري توما صوفيا فرفضوا .. وذلك صونا لكرامة رجالاتنا . وتضيف اخته : " كان يرفض وبشدة ان يتكلم شخص ما على عذاباته ولا على من تسبب له فيها ، كان اذا احدنا ابتدأ الموضوع ، يغيره بكل لباقة ، ويتكلم بآخر بعيدا كل البعد عنه . وان اشتكى له احدهم من شخصية صلبة ، جافة ، وظالمة ايضا يُهديء من روعهم مُذكراً إياهم بعبارات ربنا يسوع المسيح عن التسامح والمحبة . " يقول الرب : ( من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص ) ( مت 10 : 22)

لكننا وعدنا ان نسرد الوقائع كما جائت ( للحقيقة والتاريخ ) ، كنا نود ان يخبرنا الخوري توما صوفيا ( صهر المطران بولس ) ، عن تفاصيل أكثر دقة ، فلم يوافق قائلاً : " لا داعي لذلك ، كنتُ في ذلك اليوم ( يوم وفاة مار غريغوريوس بولس بهنام ) ، في حالة صعبة جداً ) ، وعلى الرغم من عدم موافقته سنسرد هذه الواقعة معتمدين على ذاكرتنا ، ويا حبذا لو فعل لكنا اتينا بالموضوع كاملاً .

حدث أنه في اثناء مراسيم الجناز لم يؤبنه احداً .. كانوا بانتظار البطريرك يعقوب الثالث ، إذ لم يكن قد وصل بعد ( لترؤس مراسيم جنازته كما يقول المطران سويريوس ساكا في كتابه ص.١٧٤ ) ، فوقف المرحوم الخوري عبد النور شاشا ، يتلو أسماء الموتى المؤمنين من العائلات المعروفة آنذاك ، اما القس توما صوفيا فلم يتمالك أعصابه وتقدم الى المنبر دافعا الخوري المذكور قائلاً له باعلى صوته وأمام الجموع الغفيرة التي كانت حاضرة : " ان مطرانكم لم يزل أمامكم على كرسيه ، أنسيتموه ؟!!! ولم تدفنوهُ بعد ؟؟؟!! " فنزل من المنبر وتوجه نحو الجسد المقدس ، وأحنى هامته مُقبلاً يده المباركة وصليبه المقدس . ثم أعتلى المنبر ونظر ثانية الى ملفاننا الحبيب ، وكأنه لم يزل حياً أمامه ، وكما يفعل القسس عندما يكون المطران جالساً يقومون بأخذ البركة قبل ان يبداؤوا كلمتهم .. التفت إليه قائلاً بالسريانية : " بارخمور سيدنا " أي بارك يا سيد ، و رشم الصليب قائلا " بشيم آبو وابرو روحو حايو قاديشو حاد آلوهو شاريرو آمين . ( بأسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين . ) . ثم أستهل كلمته التأبينية بالمزمور القائل :
كما يشتاق الإيّل إلى جداول المياه. هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قدام الله
(مز42: 1،2)
فقدت اليوم الكنيسة السريانية علماً من أعلامها ، إنه ( بولس ) ، الذي تدفقت منه أفاويق الحكمة ومن راسه النبوغ والعبقرية . تطلعت اليه الكنيسة بعين الإكبار والإجلال ، وعقدت عليه الآمال الكبيرة والمستقبل العظيم شأنه شأن اسلافه الذين سبقوه ، حيث كان لهم السهم الاوفى والقدح المعلا في تقدم وازدهار البيعة المقدسة . أجل تطلعت اليه الكنيسة بعين الامل والرجاء لما كان يتحلى به من العلم والعرفان ، فرأت فيه الاديب والبحاثة القدير والشاعر المصقع والخطيب الملهم علاوة لما كان يتجلى فيه من نقاء وفضيلة وسمو الاخلاق . إنه الراعي الصالح الذي قاد رعيته الى ميناء الامن والسلام رغم العواصف القوية، وغذاها من افاويق معرفته العظيمة وسقاها جرعات طيبة من عصير افكاره السامقة . ذلكم هو المطران بولس بهنام الذي انظم اسمه الى سجل الخالدين بعد ان ادى رسالته السامية في الجهاد والتضحية . فأحزني ايتها الكنيسة المقدسة فلقد رحل من كان يُدافع عنك في المحافل ، ويُشيدُ بكِ ويُعلي شأن تاريخكِ الخالد في الخارج ….. " وبينما كان يخطب هكذا وإذا الوفد الذي يترأسه البطريرك يعقوب الثالث يدخل الكنيسة ويتوجه حيث الجثمان المقدس …. فأستطرد يقول : " هوذا الذي ضربكَ بالسهم الاول جاء ليحني هامتهُ أمامك ويُقبلك قبلة الاسخريوطي …. " . ثم اختتم كلمته قائلاً : " نم قرير العين فتلاميذك وابنائك لن ينسوك ابداً ، يا من أحرقت ذاتك كالشمعة لتُنير لنا الظُلمات . "

صورة

وللخوري توما صوفيا شعراً ألقاه بمناسبة ذكرى المثلث الرحمات مار غريغوريوس بولس بهنام اليك قارئي ابياته هذه :

سكت الخطيب الألمعي المُصقع……………………. وقضى الملفان العبقري المُبدِع
وعدا الروى وأشتطَ في عدوانِهِ………………… ورمى القضاء ما درى ما يصنع
لو كان يدري ايَ ركن هدَهُ الحَشا……………… لتمزقت منه الحِشا والاضلُع
لم ترى ( بغداد ) قبلك راحلا ……………… ترك القلوب كليمةً تتصدع


كان المطران بولس بهنام يتمتع بنقاء القلب والتواضع الشديد والحب اللامتناهي ونكران الذات والعطاء من غير مقابل ، فهذه احبائي الشهادة للرب يسوع ، وهذا هو النموذج المثالي لرجل الله الحقيقي إذ " يكفي التلميذ ان يكون كمعلمه…" متى ١٠ : ٢٥ . وكانت حياته مثالا حقيقيا للرهبنة والقداسة والتقشف والزهد، فكان يتمثل بمعلمه ، وحياته المقدسة نموذجا كاملا لحياة الرب يسوع المسيح، فاتخذ من حياته الرهبانية طريقاً روحياً لتكريس الذات في خدمة البيعة المقدسة وابنائها في كل مكان . فمن مواقفه هذه وتسامحه وتواضعه ، اتهمه البعض بانه ، " لم يُخلق للادارة " ( صوت نينوى وآرام.. للمطران ساكا ، ص . ٥٠ ،الطبعة الاولى، ١٩٨٨ ) . برأي الشخصي ان المطران بولس بهنام جاء الى عالمنا هذا يحمل ( رسالة ) ، لكن لا أحد فهم شخصية هذا الملفان العظيم ، ولا فهم فحوى رسالته . وكما يقول : " الكاتب والاديب غريب عن اهله واوطانه ، غريب عن اصدقائه وخلانه ، أقسم الشرق ان يذيقه الامرين ويورده حتفه قبل أوانه بزمن طويل ، بينما ذخر العالم المتمدن كتابه وشعراؤه ، فتراهم يتلقون المساعدات المادية والمعنوية تترى من حكوماتهم وشعوبهم ، ويرفلون بمكانة سامقة دونها كل مكانة في البلاد ، اما عندنا ـ ويا للاسف البليغ ـ يعيش هؤلاء الافراد بيننا غرباء متعبين مذلين ، وغالبا لا نرى لديهم موضعا يسندون اليه رؤوسهم ، ويتركون هذا العالم وفي قلوبهم الف غصة ، وفي عيونهم الف دمعة …" وهكذا عاش علامتنا غريبا عن اهله ووطنه.. لم يفهمه احد ولم يفهم رسالته والتي كان محورها " المحبة " بكل ما تعني هذه الكلمة من مضامين .ولا اعلم لماذا الاغلبية منا لا يفهمون معنى " الوداعة " بل يسمونها ضعفا ويحضرني احبائي ما جاء به الكاتب الكبير جبران خليل جبران في " يسوع المصلوب " ، إذ يقول : " يسوع كان قوياً ولكنهم لا يفهمون معنى القوة الحقيقية . " وايضاً يقول : " لم يكن يسوع طائراً مكسور الجناحين ، بل كان عاصفةً هوجاء تكسر جميع الاجنحة المعوجة .." والمطران بولس بهنام كان هكذا ..فأقول لكم : كان بوداعته وتسامحه أقوى منهم ، وبثقته بنفسه وتواضعه كجمر نارٍ على رؤوسهم .. لذلك لم يتركوه وشأنه حتى النفس الاخير في حياته .. بل خافوهُ حتى بعد مماته .. فكما ذكرنا إنه لم يشأ ان يضعوا له قناديله على رُخام ضريحه وقال : " لا .. فاني أخشى ان يصبح ضريحه مزاراً وتأتي الناس للتبرك منه " . ولو تقراؤوا الرد الذي كتبه المطران بولس بهنام عندما اتهمه البطريرك يعقوب الثالث بالشيوعية ، لفهمتم ماذا اقصد بانه " كان عاصفة هوجاء تكسر بهبوبها جميع الاجنحة المعوجة. "

كذلك هنالك رواية تناقلتها الناس عن لسان أُناس اتوا من قرية ( بحشيقة ) او ( بحزاني ) لا اذكر ، وذهبوا الى المطران بولس في مقره بالبتاويين واستضافهم الى مائدته وكانت عبارة عن طبق من الزيتون والطحينة وما الى ذلك … فكيف ؟ ؟؟ اولا كانت خلال ايام الصوم المقدس ، فماذا كانوا يتوقعون ان يقدم لهم ؟؟؟ أيذبح لهم ( العجل المسمن) في ايام الصوم ؟؟لا احد عندنا يفهم معنى ( الزهد ) الحقيقي ، وهو كان زاهدا ، بل لماذا إذا سمعتم قصص القديسين ، وما كانوا عليه من الزهد في الماكل والملبس والمسكن ، خصوصا لو كانوا من كنائس اخرى ترونه امرا طبيعيا !!! هل احدهم فهم الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام حينما قال : " وهناك فروق بين غذاء النفس وغذاء الجسد ، فالنفس تتغذى بالعلم والمعرفة وتتمتع بالنور والجمال بينما الجسد يتغذى بأغذية مادية معروفة ، فالجسد إذاً مادي والنفس بسيطة " ( عن مقالته في النفس تحت عنوان " بساطة النفس " ) .

أجل أحبائي أجتمعت بملفاننا العظيم عناصر الروحانية والصوفية والألمعية الفذة ، روحانية عظيمة كانت تكمن في قلبه الكبير ، وطيبا وافرا يشع في عينيه الوديعتين ، وعمقاً روحيا يشف في نظراته الثاقبة التي تخترق المجهول باحثة عن كنوز الروح في اعماق الوجود ……….
كان مار غريغوريوس بولس بهنام ، من رجال الكنيسة الافذاذ الميامين الذين عملوا في ميادين التبشير والاصلاح ، وعلموا سُبل الخير وارتقوا أسمى درجات العلم والعرفان ، وارووا ظمأ البشرية بما اودعهم الله من علم غزير ودراية واسعة في التاريخ العظيم ، فقضى حياته في سبيل البر والعمل المثمر والتأليف .

وبرحيل علامتنا مار غريغوريوس بولس بهنام ، نطوي آخر صفحة من سفر الخالدين ، وجهاد الظافرين ، وسير القديسين ، ومجد الصالحين ، فذاك ( بولس ) الامين ، ينظم الى اسلافه الميامين .

صورة
يحضرنا هذه الابيات يصف بها الموت يقول :
إنما الموتُ هجوع……………….. ونهايات الجهاد
تختفي الآلام عند ………… القبر في ذاك الرقاد
وتبيت النفس في………….. الرجوى إلى يوم المعاد
ترتجي الخلد وادر………….ي ماذا تبغي
أنا أدري

صورة

تلميذة المطران
مراقب عام
مراقب عام
مشاركات: 114
اشترك في: الخميس إبريل 28, 2011 11:53 am

Re: الجزءالسادس والاخير من حياة الملفان بولس بهنام المفقودة بين طيات الزمن

مشاركة بواسطة تلميذة المطران » السبت يناير 14, 2012 5:57 pm

تجد ادناه عزيزي القاريء صورة لضريح العلامة الكبير مار غريغوريوس بولس بهنام ، اود ان اضيف كلمة أخيرة : بعدما نشرنا صورة ضريحه المقدس وردتنا تعليقات من ابناء ملفاننا الحبيب ، إحداها لشماس مغترب عن ارض العراق ، لم يعاصر الملفان العظيم مار غريغوريوس بولس بهنام، كتب يصف مشاعره عندما كان يقف امام الضريح المقدس ، يقول : " الله صورة رائعة ... كم كنت أرتوي وانا اقف امام ضريح هذا القديس العظيم ، وكنت اشعر بالطمأنينة والسلام ، وانا اتكلم اليه ، واُصلي أمامه ... قديس عظيم وشفيع أكيد ، وراع صالح ... كاتب محنك ، واب رؤوف ... شفاعته معنا جميعاً آمين . "

تذكرت عندما رفضوا حينها ان يُعلقوا بجانب الضريح قناديل ، وآية انجيلية ، وصورة شخصية للملفان " خشية ان يصبح ضريحه مزاراً "!!!

أقول ان لا قناديل ولا صور ولا ايقونات تستطيع ان تصنع قديسا ،" فهؤلاء هم الذين يتبعون الحمل حيثما ذهب ، هؤلاء اشتروا من بين الناس باكورة لله وللحمل. وفي افواههم لم يوجد غش ، لأنهم بلا عيب قدام عرش الله " رؤيا ١٤ : ٤ ـ٦.
وكما يقول القديس أثناسيوس : " ان النعمة الإلهية توجد في نفوس وأعضاء القديسين " . ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم : " بالموت لا تتغرب اجساد القديسين عن النعمة التي كانوا يحيون بها ، بل تزداد بها ".
ان المطران بولس بهنام ، كان ذهبا ولُبانا ومُراً ، ذهبا بقيمته العالية امام الرب ، ولُبانا لأن كهنوته كان مصحوبا بالآلام ، ومُراً لأنه ذاق المر في متاعبه الكثيرة.
لذا فلقد تحققت النبوءة ، فمنهم من شم رائحة بخورا زكية تتصاعد من ضريحه المقدس ، ومنهم من راى نورا يشع منه ، ومنهم ، من يقف يتأمل ويشعر بالسلام والطمأنينة ويصلي امامه ..." فصعد دخان البخور مع صلوات القديسين من يد الملاك امام الله " رؤ.٨ : ٤ . فسيبقى شذى قداسته يعبق نفوسنا وكنائسنا وتاريخنا الى الابد .
المرفقات
ضريح العلامة الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام.jpg
ضريح العلامة الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام.jpg (81.93 KiB) تمت المشاهدة 25660 مرةً

أضف رد جديد