الجزء الرابع من حياة الملفان بولس بهنام المفقودة بين طيات الزمان

أضف رد جديد
تلميذة المطران
مراقب عام
مراقب عام
مشاركات: 114
اشترك في: الخميس إبريل 28, 2011 11:53 am

الجزء الرابع من حياة الملفان بولس بهنام المفقودة بين طيات الزمان

مشاركة بواسطة تلميذة المطران » الأحد مايو 15, 2011 1:24 pm

الجزء الرابع من
حياة الملفان بولس بهنام
المفقودة بين طيات الزمان


صورة
٦ ـ انتقال الإكليريكية الأفرامية إلى الموصل (العراق) : ـ
عاد راهبنا الحبيب إلى الموصل إثر إنتقال الإكليريكية الأفرامية إليها ، وذلك برغبة من البطريرك مار أفرام الأول برصوم ، فعينه مديراً ومدرساً ومسؤولاً عليها . أجل احبائي عاد " البلبل الغريد" ليحلق في سمائنا الصافية ما طاب له التحليق ، وليشدو في ربوعنا الخضراء ما طاب له النشيد ، بأعذب الالحان التي ثملت بها النفوس وسحرت بها الألباب ، وتبعته الأرواح العطشى روحياً لينابيع المعرفة والفضيلة .
وهكذا
" راح الزارع ليزرع ، فأعطى ثمراً … متى ١٣ : ٨ ـ٩ " .
توافد الطلاب ليس فقط من العراق بل من سوريا ولبنان وتركيا ، فراح الأب الروحي الربان بولس بهنام يهمس في أذن كل منهم ، فكرة روحية تعطيه درساً خالداً ، ليبثها هو بدوره إلى الأجيال القادمة ، ولكل واحد منهم نصيحة روحية تلائم قدراته ، وتنمي قابلياته ، ليعدَّهم زارعين أمناء في حقل الرب . كان يعلمهم بأمثال ، ولا زالوا يتذكرون أمثاله ونصائحه . فقد روى لي الخوري توما صوفيا عن إحدى هذه الذكريات ، عاشها عندما كان طالباً لديه في الصف الأول الإكليريكي ، يقول :
" في أحد الايام كان لدينا إمتحان ، حينما رأى الأب بولس بهنام أحدنا يغش .. فأمرنا أن نترك الأقلام والكراريس وان نتكيء فقص على مسامعنا هذه الحكاية " :
" يحكى أن رجلاً ميسوراً ، له أبن كسلان ، فشجعه والده على التجارة وأعطاه مبلغاً من المال . فأبحر إلى الهند ليتاجر هناك ، وفي منتصف الطريق نزل في غابةٍ جميلةٍ ، وراح يتجول فيها ، وإذا بأسد قد إفترس فريسةً وأكل منها الكثير ، ثم أبقى قطعة صغيرة ، فتركها وذهب ، وإذا بثعلبٍ هزيل ، أخذ يأكل منها . فقال الشاب في نفسه : " إذا كان الله قد أعطى هذا الثعلب الهزيل رزقه ، فأنا أفضل منه بكثير ، وإن لم أعمل فسيرزقني الله لا محالة . " فعاد إلى بيته واستقبله والده متهللاً ظاناً أنه قد نجح في تجارته وعندما إستعلم منه قص عليه حكاية الأسد والثعلب الهزيل . فقال له والده : " يا بني لما لا تكون أسدا تفترس وتطعم الثعالب الجائعة ، تنتظر أن تكونَ ثعلباً لتأكل فرائس الأسود ! " .
وعلى الرغم من مهامه المتعددة ، من الإدارة والتدريس وإستلام مهام الكنيسة وإقامة القداديس ، وإلقاء الخطب والمواعظ ، أنشأ مجلة للكنيسة دعاها " المشرق " ، مستوحياً أسمها من الآية القائلة : " ومن مشرق الشمس مجده . إش ، ٥٩ : ١٩ . " وراح يدبج المقالات المختلفة منها دينية وتاريخية وأدبية وعلمية وفلسفية ، وذلك في الأول من حزيران (يونيو) ، ١٩٤٦م إستمرت حتى ١٦ كانون الأول ( أكتوبر) سنة ١٩٤٧م . كانت هذه المجلة من أجمل أحلامه ، وتسمعه عزيزي القاريء يشرح أحلامه هذه وآمانيه من أجل تحقيق هذا الهدف السامي ألا وهو خدمة الرب وبيعته المقدسة الأمران اللذان كرس حياته في خدمتهما . فيقول :
" وهكذا كانت هذه الصحيفة حلماً جميلاً في مخيلتي ، وبذرة صغيرة في نفسي وأنا أسقيها منذ عهد طويل أفاويق روحٍ تمخضت بها أياماً وليالي كما يتمخض الحلك البعيد بالفجر المنير ، وآمالي بها تتجمع عند هدفٍ واحد كما تتجمع الفراشات البيضاء حول زهرة عطرة فواحة ، أما الهدف فهو وحيد لا يتجزأ وقفت له عقلي وقلبي ويراعي حتى أتوصل إليه ـ بعون الله ـ فأبلغ غايتي العذبة من الحياة . (المشرق ،ع. ١ ، ص . ٣ ) .
توقفت هذه الصحيفة حين وارتها الغمامة الاولى في حياة علامة السريان ، إذ " في الفترة نفسها حلّ في مدينة الموصل الربان عبد الاحد توما *(البطريرك يعقوب الثالث) قادماً من الهند ، فإنبرى يلقي المواعظ الدينية المتضمنة شروحاً تفسيرية ولاهوتية ، في كنائس الموصل أيضاً ، وهكذا عاشت أبرشية الموصل جواً روحياً محضاً بوجود هذين " النيرين العظيمين " وقد جمعهما عملٌ مشترك وهدفٌ موحد ، وعقد الود بينهما ."( صوت نينوى وارام أو المطران بولس بهنام ، المطران اسحق ساكا، حلب ، ١٩٨٨،ص.٤٢) .
فكانت اول نتيجة لهذا ( العمل المشترك ) ، سيدي المطران ، أنه تسبب في حجب المجلة ، فحينما كان الراهب بولس خارج مدينة الموصل ، كتب الراهب عبد الأحد توما مقالاً بعنوان " من هو بطريرك أنطاكية الشرعي " ، وقدمه إلى المطبعة ، وكثيراً ما نصحه صاحبها ، قائلاً له : " إن صاحب المجلة ومسؤولها ليس هنا ، وهذا الموضوع من شأنه أن يحجب المجلة " ، فلم يسمع منه ، كان موضوعه هذا يتكلم عن الاباء الدومينيكان الذين حلوا في العراق ، وقسموا الكنيسة الارثوذكسية ، واستمالوا أبنائها إلى الكثلكة ، إتهمهم بأنهم جواسيس ، وليسوا آباء يمثلوا البشارة الخلاصية ، كذلك أن السريان الكاثوليك عندما تركوا كنيستهم الأرثوذكسية إنما تبعوا مال ( الفاتيكان ) ، ونفوذ فرنسا ، مما أثار غضب السريان الكاثوليك ، فقدموا شكوى ضد المجلة متهميها بأنها مجلة سياسية . فقام متصرف الموصل بقفل المجلة ، وهكذا طوى الأب بولس أول أحلامه . وعندما عاد إلى الموصل تفاجأ بهذه الأمور ويقال أن الصراع كان يومها كبيرا بين الكاثوليك والأرثوذكس ، خصوصاً وأن الأرثوذكس يمثلون قلة في قرية الأب بولس بهنام ، ويحكى أن الكاثوليك منعوا الأرثوذكس حتى من الإستقاء من البئر ، وبأنهم توعدوا للراهب بولس بهنام ظناً منهم بأن الموضوع كان بموافقته .
ونظراً لغزارة مادته والسيل اللامتناهي الذي في جعبته من مواضيع تاريخية ودينية وفلسفية ، أصدر مجلة ثانية أسماها ( لسان المشرق ) ، وذلك في أيلول ( سبتمبر) عام ١٩٤٨م واستمرت حتى شباط (فبراير) عام ١٩٥٢ .
كان الراهب بولس بهنام يبدو جريئاً قوياً يهزأ " باللجج والأمواج التي إجتاحت سفينته إذ يقول في إفتتاحية (لسان المشرق في سنتها الثانية) :

" نحمدك اللهم ، لأنك منحتنا القوة والثبات ، في ميدان مبطن بالأتعاب والأشواك ، مغلف بالصعاب والأحساك ، فأكملنا سنتنا الأولى بعد أن إجتاحت سفينتنا أمواجاً صاخبة ، وقاومت لججاً مجنونة … "
أما مقالاته المتنوعة فكان حريٌّ بكنيستنا أن تعيد نشرها جميعاً ، لما تتضمنه من الفائدة الفكرية والأدبية والفلسفية ، والتي تعد وبحق مراجع مهمة لكل باحث في تراثنا الخالد . أضف إلى ذلك أنه أول من إتبع أسلوب ( التحليل الفلسفي) والبحث العلمي عند دراسته لفيلسوف ما .
أما أسلوبه فحدث عنه ولا حرج ، فهو أسلوب أخاذ ، ووصفه غاية في الدقة والجمال . فإذا يرحل في التأريخ ، يجعلنا نرحل معه في أحضان تأريخنا المشرق وننظر عظمته ماثلة أمامنا ، وهكذا نسافر معه في سفر الخالدين ليصور لنا التأريخ ملحمة حية ، فحين يصف لنا رحلته في ٤ تموز(يوليو) عام ١٩٥٠م والتي ، كتب مقالته تحت عنوان " لحظات خاطفة في مرابض التأريخ "
( لسان المشرق ،السنة الثانية ع.١٠ ، ١١ ،١٢ ، ١٩٥٠،ص ـ ٣٨٣ ٣٦٩) ،
يبتدؤها هكذا
"وما الحياة إلا (لحظات خاطفة) يمر بها الإنسان ، مرور السهم في الفضاء ، فلا يترك إلا أزيزاً خافتاً ، أو أنيناً مؤلماً ، لا يلبث أن يتلاشى في آفاق العدم البعيد . "
ويكمل :
" الآن الساعة العاشرة والنصف من صباح الثلاثاء ، ٤ تموز سنة ١٩٥٠ . للذي قال " للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار ، وأما أبن الإنسان ليس له أين يسند رأسه " ، والقطار يرفع عقيرته مؤذناً بالسفر ، والشمس تسكب أشعتها المحرقة على السهول والآكام ، تريد إحراق الأخضر واليابس من هذه الأرض البائسة التي عذبها الإنسان بأقدامه القاسية ، والموصل تختفي عن الأنظار رويداً رويداً بما فيها من الخير والشر والنور والظلام ، وهذا القطار البائس يسير نحو الغرب يخترق سهولاً واسعة ، وحقولاً مثقلة بالحنطة الدانية البيضاء ، والحصادون منتشرون هنا وهناك يجمعون الحزم ليخرجوا منها قمحاً جيداً وخبزاً نقياً …
هذه السهول بين الموصل ونصيبين ، تموج بالذكريات ، كما يموج البحر الخضم باللجج الصاخبة ، فهذه مضارب تغلب تملأ الوديان والوهاد ، وهذه خيولهم المطهمة تصهل منتظرة غزوة موفقة أو كرَّةً ظافرة ، وأولئك فتيانهم البواسل يتنادون للحرب للأخذ بثأر كليب سيد العرب وقائد أبطالهم إلى ساحات الشرف والإنتصار ، وهذه فتياتهم الباسلات خارجات من الخدور تشجع الفرسان ، وترسل زغاريدها العالية في الفضاء ، لتثير دم الأبطال والأقيال من بني نزار الميامين ، وفي طليعة القوم فتى ليس كالفتيان ، وبطل ليس كالأبطال ، يسير ، وفي سيره بطولة وكابة ، وفي نفسه رقة وعذوبة ، ذاك هو المهلهل ، أول من هلهل الشعر العربي الحر ، يرسل أبياته في الفضاء ، قطعاً دامية من كبد حري ، لا ييأس ولا يعيي ، ولكنه يندفع إلى الأمام إندفاع العاصفة الثائرة ، والفرسان تتطاير هلعاً أمامه كما تتطاير أسراب العصافير إذا هبط عليها الصقر الغضوب . "

وهكذا تسير معه وهو يروي لنا مسيرة التأريخ بين الموصل ونصيبين …. حتى يقول :
" أظنك مللت السير معي يا قارئي العزيز ، لأن الطريق صعب طويل تختلط فيه الأشواك بالأوراد ، وتتعانق الحوادث التاريخية الدامية بالحوادث المنعشة . ولكن لا تهتم بذلك ، فكلما رأيت قدميً تقطران الدماء القانية ، والأشواك القاسية تثخن فيها الجراح فأعلم إني قريب من النصر الأكيد ، فلا نصر يا عزيزي إلا تحت ظل الأهوال والمصائب ، ولا إكليل إلا بعد الجهاد الطويل والألم المرير …. وماذا يهمني منك أمللت السير معي أو لم تمل ، فإني أسير وأنت حر أن تتبعني أو تتركني وشأني أسير وحيداً في هذا الظلام ، وأعلم إني لا أخشى الظلام مازال ذلك النور ، نعم ذلك النور بعينه في قلبي . "
ويختتم بهذه الكلمات : " إنتهى كل شيء الآن ، والنفس المتعبة في حلم عميق ، حلم أرقها فأراها مرابض المجد ومسارح الخلود ، وأسمعها أناشيد العظمة والسؤدد ، والتأريخ يسير بجانبها خاشعاً صامتاً مفكراً ، لا يرفع رأسه إلا لتحية الأمجاد ، ولا يحرك يديه إلا لتسجيل مآتي العظماء والأبطال والخالدين ." ( حمص ٦ تموز سنة ١٩٥٠ ، الأب بولس بهنام )
وبعد هذه الرحلة الجميلة أتركك عزيزي القاريء ،
لأستقبلك في المحطة القادمة من حياة نابغة السريان ، الملفان بولس بهنام


هامش
---------------------------

* / كان الراهب عبد الاحد توما في الهند ومكث هناك نحو ثلاثة عشر عاما ، ثم قدم الى الموصل بصحبة مطرانين وقسيس ، فقاموا بزيارة الموصل والاديرة المجاورة ، ثم طلبوا ان يزوروا قره قوش ، وعلى الاخص كنيسة مارتشموني اذ سمعوا عن المعجزة التي تحدث بشفاعتها سنويا و بالتحديد في عيدها الموافق ١٥ تشرين الاول( اوكتوبر) ، اذ تظهر مع اولادها السبع ومعلمهم اليعازر على شكل أطياف نورانية ذهابا وإيابا على حائط الكنيسة . ولدى زيارة هؤلاء المطارنة لم يوافق ذلك يوم عيدها فيحكى انهم قراؤا الانجيل المقدس وسجدوا ، وتوجهوا الى القديسة شموني قائلين لها " نحن أولاد مار توما الرسول إن لم نبصر... لانؤمن ! " فظهرت القديسة مع اولادها ومعلمهم ، فمجدوا الله . ولدى عودتهم الى الموصل ، طلب الراهب عبد الاحد توما من الاب بولس بهنام ان يرفع امنيته الى قداسة البطريرك مار افرام ليبقى هو ايضا في الاكليريكية الافرامية خصوصا ان الاب بولس هو مديرها ومسؤولها . ففعل ، فكان رد البطريرك مار افرام لابنه الروحي الراهب بولس : " يا بني لا تدعه يبقى معك في الاكليريكية ، فسوف يتعبك " ، لكن الراهب بولس ببراءته المعهودة كرر التماسه وقال له : "لا ياسيدي دعه هنا معي انه ملّ الغربة وايضا ليساعدني في التدريس. " فوافق قداسته إذ كان لراهبنا الحبيب دالة كبيرة لدى ابيه البطريرك فأسندت اليه مادتي اللاهوت واللغة الانكليزية ، وكان ذلك في بداية العام الدراسي لسنة ١٩٤٦ ـ ١٩٤٧ وحتى نهاية العام الدراسي لسنة ١٩٤٩ ـ ١٩٥٠ .

أضف رد جديد