نيافة المطران ملاطيوس برنابا

أضف رد جديد
تلميذ المطران
مدير الموقع
مدير الموقع
مشاركات: 57
اشترك في: الخميس إبريل 28, 2011 3:38 am

نيافة المطران ملاطيوس برنابا

مشاركة بواسطة تلميذ المطران » الثلاثاء مايو 03, 2011 1:03 am

المطران غريغوريوس بولس بهنام
المعلم والصديق

صورة
بقلم المطران ملاطيوس برنابا*
مطران حمص وحماه وتوابعهما

قال عن ملفاننا الكبير

قادتني النعمة الإلهية في سنة 1939 م إلى التتلمذ في المدرسة الإكليركية اللاّهوتية في زحلة - لبنان في مستهل إفتتاحها وكانت تضم وقتئذ ثلاثة رهبان وثلاثة طلاب برئاسة الطيب الذكر الشيخ الجليل المطران إقليميس يوحنا عباجي , فأنضميت إليهم ورفيق لي , وكان أحد الرهبان الثلاثة الفقيد الكبير , والإنسان الوديع الصافي السريرة , الطيب القلب , المرهف الشعور الراهب بولس بهنام , أحد رهبان دير مار متى وطالما كنت أطيل التأمل فيه فأجد فيه الراهب الوديع المحب , البسيط في ملبسه , القناعة دأبه , والهدوء والتفكير الطويل ديدنه , لا يفارقه كتابه , كان يدرسنا اللغة السريانية وآدابها , ويواصل دراسته العالية في علوم المنطق والفلسفة وعلم النفس , وراحت الأيام تطوى وهو يدأب على الإغتراف من العلوم ويختزن الشيء الكثير منها , ولا يكاد الكتاب يفارقه ولا يفارق القلم أنامله . وعندما كانت تزعجه الغارات الجوية أبان الحرب العالمية الثانية كان يتأبط كتابه ويأخذ له كسرة من الخبز ويتجه إلى أحد الجبال المحيطة بزحلة حيث يقضي النهار بكامله مع كتابه في علم النفس , ويعود في المساء بصمته وهدوئه وعزمه وآماله التي كان فيها .
وعندما كان يبدأ درس اللغة السريانية كان يقف مزهواً بهذه اللغة المقدسة التي شغف بها , ويلقي علينا الدرس فنشعر من خلال القائه أنه ملك ناصية اللغة السريانية الحبيبة التي طالما تغنى بها وأنشد قصائد شعرائها , وتغنى بأمجاد شعرائها , وتغنى بأمجاد مدارسها وعلمائها . وكم كان يحلو له أن يتحدث بها بطلاقة ليشجعنا ويدفعنا إلى الرغبة في اقتفاء أثره والنسج على منواله .
وتأتي مناسبة عيد شفيع المدرسة مار أفرام فيتخذ له موضوعاً يتكلم فيه فإذا به يصوّر لنا القديس مار أفرام في مدرستي نصيبين والرها وهو يلقّن الفتية والفتيات الأناشيد السريانية الشجية في وصف العناية الإلهية وسرّ التجسد الإلهي ووصف بتولية العذراء القديسة والشهداء وأعمال المسيح وسرّ الفداء فينقلنا إلى عالم الروح .
وفي احتفال آخر نراه يقف ليحدثنا عن المدارس السريانية القديمة التي نبغ فيها علماء السريان العظام الذين خلدوا لكنيستنا أمجاداً بمؤلفاتهم النادرة , فينتقل من مدرسة إلى أخرى ويصف ما شاء له الوصف علمائها ورهبانها وقديسيها , الأمر الذي كان يجعلنا وكأننا في حلم لذيذ لا نريده أن ينتهي . وكم مرة كان يتكلم بالسريانية فيتدفق كالجدول النمير , فترتشف من منهله فينعش أنفسنا ويذكي فينا محبة كنيستنا ولغتنا وآبائنا وطقوسنا الجميلة .
ثم تتوالى الأيام وإذا به يبدأ في الكتابة على صفحات المجلات ((النشرة السريانية)) و ((الضاد)) الحلبيتين في مواضيع طالما ملكت عليه مشاعره في المدارس السريانية القديمة عبر التاريخ وفي الأدب السرياني وخواصه وأدباء السريان وشتى المواضيع التي طرقوها في مؤلفاتهم , ثم يكتب في ((مجلة الأديب)) اللبنانية الشهيرة المقالات الفلسفية , وأذكر أنه كان يوقع مقالاته بحرفي ب . ب وتتوالى الأسئلة من القراء على أصحاب المجلات لكي يفصحوا عن صاحب تلك المقالات الذي لا يريد الشهرة زهداً إلى أن تفضح إدارة المجلة عن إسمه الصريح فتنهال عليه الرسائل وهي تحمل الثناء والتقدير بل الإعجاب طالبين المزيد منه .
وتنتقل المدرسة الإكليركية إلى الموصل بسبب عوامل اقتصادية في خريف عام 1945 م بمديرها الأب بولس بهنام وطلابها , وكنت لا أكاد أفارقه في أوقات الفراغ أجلس عنده وكان يحدّثني عن حلم يراوده في إصدار مجلة , ونتحدث في الاسم الذي يجب أن يطلق عليها , ونستعرض عدة أسماء وأخيراً يروق له اسم جميل طالما تغنى بما فيه من أمجاد وأمجاد , وهو ((المشرق)) وتبصر مجلة ((المشرق)) النور , وافتتاحية العدد بالعبارة التالية : (حلم جميل يتحقق) ويدبج فيها الروائع والبدائع من الأدب السرياني والفلسفة والتاريخ , وأخذت (المشرق) تنطلق إلى البلاد العربية وتركيا والأمريكتين والشعب السرياني يتلقفها بشوق ولهفة معتزاً ومفاخراً بما حوته من مقالات قيّمة كان أبناء الكنيسة بحاجة قصوى إلى الإطلاع عليها منذ زمن بعيد , والأب بولس يطوي الليل في الكتابة وتحبير المقالات التاريخية والفلسفية والأدبية , حتى أصبحت (المشرق) حديث المجالس .
ثم أخذ في تأليف الكتب الدينية المدرسية ثم التاريخية مدافعاً عن حقائق تاريخية أراد بعض أصحاب الغايات تشويهها وتغطيتها بستار البهتان , فظهر الحق جلياً واضمحل الباطل سريعاً . واستهوى الموصليين أسلوبه في الوعظ فكانوا في كل أسبوع تضيق بهم الكنيسة وهم يصغون إلى الخطيب الموهوب وهو ينثر على أسماعهم حقائق الإيمان ويسفّه البهتان فتهفو النفوس وترق القلوب , وتتعلق به ويصبح الأب بولس مطمح الأنظار , ثم يفاجأ باحتجاب مجلته , فلا ييأس بل يعيد الكرّة , ثم يحبر الكتب القيّمة . وشاءت العناية الإلهية أن يتبوأ كرسي مطرانية الموصل في ربيع عام 1952 م فيزداد نشاطاً وإقداماً على القيام بمهام رتبته السامية1 , فضلاً عن أعماله الأدبية , إذ لم يكن يحلو له أن يترك القلم من يده . ثم انتقل إلى أبرشية بغداد2 فاتسع نطاق عمله الإداري والراعوي وأخذ يفكر بمشاريع حيوية لأبرشيته وصمم أن يقوم ببناء مستشفى خاص باسم الملة السريانية ويبدأ في الإعداد لهذا المشروع الهام وقد سار شوطاً بعيداً فيه وكاد ينتهي كل شيء لولا أن عاجلته المنية . ولما فجعت الكنيسة السريانية بانتقال فقيدها الكبير الخالد الأثر البطريرك أفرام برصوم سكب عصارة قلبه ودماغه في كتاب دبجه يراعه وسماه ((نفحات الخزام أو البطريرك أفرام)) ضمنه تاريخ حياة الفقيد الكبير وأعماله الدينية والأدبية والوطنية ووصف شخصيته الفذة بأسلوب رائع هو السحر الحلال . ثم يوالي عمله الأدبي الذي استهواه فيطلع علينا بين مدة وأخرى بكتاب جديد فمن كتابه ((الفلسفة المشائية)) إلى بحث مسهب في ((علم النفس عند مار موسى ابن كيفاك )) إلى كتاب عنوانه ((ابن العبري الشاعر)) وفيه يترجم قصيدة الحكمة الإلهية من السريانية إلى العربية شعراً , إلى ترجمة كتاب ((الإيثيقون)) للعلامة السرياني أبي الفرج ابن العبري (فلسفة الآداب الخلقية) ثم كان لديه بحث في اللغة الآرامية ولهجاتها . وأخيراً انتهى من كتاب بعنوان ((البابا ديوسقورس أمام منبر التاريخ)) رفعه إلى المقام البطريركي للإذن بطبعه قبل انتقاله إلى عالم الخلود بأيام معدودة . وقد كتب إليّ بذلك نظراً إلى ما كنت أكنه له من إخلاص ومحبة صافية كان رحمه الله يبادلني بمثلها . وطالما كتبت إليه قائلاً : أنت مدين للكنيسة لكي تقدم لها من ثمرات يراعك طالما وهبك الله ما وهبك من علم ومقدرة على التأليف .
وقبل أيام معدودة من وفاته كنت أستمع إلى المذياع من محطة بغداد تنقل خطاباً يلقيه بعنوان ((الفدائي)) ومما قاله ولا زال عالقاً في ذهني المقطع التالي : كيف تريد أن يكون الفدائي ذلك الرجل الذي يجد بيته وقد أصبح أنقاضاً مبعثرة هنا وهناك وزوجته وأولاده يقفون في العراء حفاة عراة يأوون إلى خيام تلعب فيها الرياح , كيف تريده أن يقف مكتوف اليدين لا وألف لا . لكنه يلتهب ناراً وينقض على العدو ليعيد بلاده إلى أهله وأبناء وطنه .
أما شخصيته المحببة إلى كل من عرفه فكانت نتيجة تواضعه ودماثة أخلاقه ووداعته . نظر إليه أصدقاؤه ومعارفه من الأدباء والعلماء نظرة تقدير وإكبار وقدّروه حق قدرة , إذ وجدوا فيه الكاتب اللامع القوي الحجة والفيلسوف المفكر والأديب الشاعر .
وفي يوم حالك السواد ينقض الموت على فقيدنا الغالي فيتركه جسداً بلا روح لتنطلق روحه من عقال هذه الحياة إلى عوالم اللانهاية إلى الخلود لتنضم إلى أرواح الأباء العظام الذين سبقوه فأخرست المنية فيه لساناً كان ينطلق بتسبيح العزة الإلهية في الاصباح والامساء وينثر من خطبه الرنانة على المنابر فيأخذ بمجامع القلوب . وأوقفت في يده قلماً كان يخط الروائع حتى أواخر أيامه .
رحمه الله وجعله في عداد ما قدم للكنيسة والوطن والعلم من خدمات تذكر فتشكر .
25 – 3 – 1969 م
المطران ملاطيوس برنابا




-----------------------
1- في أثناء أسقفيته على أبرشية الموصل سجل كل الفناء المحاط بجدار والذي يضم بين جدرانه الرحبة كنيسته الطاهرة الخارجية , إلى قائمة أوقاف الطائفة , وجدد مطرانية الموصل , ومدرستها , وفي عصره بنيت كنيسة مار أفرام بكركوك .
2- في بغداد بنيت كنيسة مجيد زيونة , وشيّد مدرسة طائفية , وكان يسعى من أجل إقامة مستشفى .


من كتاب حياة الملفان مار غريغوريوس بولس بهنام للأب يوسف سعيد


-------------


* - نيافة الراحل المطران ملاطيوس برنابا هو من مواليد آرخ، مركز أبرشية جزيرة ابن عمر في شهر تشرين الثاني 1922 (في تركيا اليوم). التحق في أيار عام 1939 بإكليريكية مار أفرام التي أسسها قداسة البطريرك أفرام الأول برصوم في زحلة (لبنان)، وفي خريف 1945 عندما نقلت إلى الموصل (العراق) رافقها وعين فيها معلماً للدروس الدينية. وفي عام 1947 توشّح بالإسكيم الرهباني وانضم إلى الحاشية البطريركية في حمص (سورية)، حيث احتضنت مدينة حمص المقر البطريركي من عام 1933 ـ 1959. وفي عام 1950 رقي إلى درجة الكهنوت المقدس، وعين سكرتيراً، فقائماً بأعمال النيابة البطريركية. خدم سنة وشهرين كنيستنا السريانية في القاهرة (ج.م.العربية)، وفي 7 نيسان 1957 رسمه قداسة البطريرك أفرام الأول مطراناً باسم ملاطيوس برنابا في كنيسة أم الزنار بحمص، وعينه نائباً بطريركياً فيها، وبقي في منصبه حتى عام 1959 حيث رشحه قداسة البطريرك يعقوب الثالث مطراناً شرعياً لأبرشية حمص وحماه وتوابعهما، التي بقي يخدمها بكل إخلاص ومحبة حتى عام 1998 حيث قدّم استقالته لأسباب مرضية. ثم عاش معززاً مكرماً محاطاً بخلفه راعي الأبرشية وكهنته والمؤمنين والمؤمنات، حتى أن استودع روحه بيد الخالق فرقد بالرب بعد شيخوخة صالحة. صباح يوم الخميس المصادف 18/تشرين الثاني/2004
الرجل العظيم لا يعيش إلا وقتاً يسيراً
غير أنه يترك في الحياة دوياً هائلاً لا يستطيع الموت أن يخففه ،
ويبقى لأبناء قومه نفيساً من المجد و السؤدد لا يستطيع البلى أن يأتي عليه
الملفان مار غريغوريوس
بولس بهنام

أضف رد جديد