القيم الروحية وموقفنا منها

أضف رد جديد
تلميذة المطران
مراقب عام
مراقب عام
مشاركات: 114
اشترك في: الخميس إبريل 28, 2011 11:53 am

القيم الروحية وموقفنا منها

مشاركة بواسطة تلميذة المطران » الاثنين نوفمبر 11, 2013 1:58 am

ستبقى هذه البشرية ، سفينة محطمة ، تائهة في خضم الحياة المتلاطم ، ما دامت بعيدة عن شاطيء الروح ، لا تعرف قيمة إلا للحديد والنار . نعم … ستبقى هائمة على وجهها في مفاوز حماقتها وجهلها إلى اللحظة التي تدخل فيها "سحابة " الروح النورانية ، فتلقي بين طياتها اللاهبة بؤسها وشقاءها ، فتأخذ من "سينائها" الروحاني "الوصية الجديدة " مكتوبة بأصبع الله ، فتعرف حقيقتها الذاتية ، وكيانها الجوهري ، وتبلغ إلى مرفأ السلام ، فتفوز بالحياة المثلى التي خلقت لأجلها .
البشرية روضة ، ولكنها يابسة ، وستبقى يابسة مازالت بعيدة عن الينبوع ، بعيدة عن ماء الحياة ، بعيدة عن الله ، ففي اللحظة التي نسيت فيها حقيقتها ، وفقدت روحيتها : فقدت كل شيء ، واصبحت هشيما يوشك ان يحترق ، ولكن بنار غروره وشره وكبريائه .
كثيرون من الناس يعتقدون أنه "بالخبز وحده يحيا الإنسان " ، ولكننا سمعنا معلمنا السموي يقول : "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله " مت٤ : ٤ . ومعنى ذلك أن "الخبز " ليس كل شيء ، وان "المادة " الحقيرة ليست رائد الانسان الحقيقي ، فهناك وراء هذه الغيوم الكثيفة ، سماء صافية ، هي سماء الروح الكلي . واشعة ساطعة تشرق ، هي أشعة المثل العليا ، غير أن أعين البشرية لا تراها الآن لأنها محجوبة بغيوم المادة وسدم الذهب والفضة ، الأمور التي يقول عنها الكتاب انها " أصل لكل الشرور" ١تي ٦ : ١٠ .
في الإنسان ، شيئان ، أحدهما مادي يزول ، والثاني روحاني خالد ، ولكل منهما مطالبه وحاجاته ، بالنسبة إلى شرفه الجوهري ، وكيانه الحقيقي ، فالأول حاجاته مادية مثله ، والثاني حاجاته روحية مثله أيضا ، وأي منهما فطمناه عن حاجاته ، تصوح وذبل ، فأتينا بذلك جريمة لاتغتفر . لأنها موجهة نحو الله وذواتنا الجوهرية ، نحو الله الذي أمرنا بكتبه المنزلة " إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله " ونحو ذواتنا لأننا نحتقرها بالاهمال .
أما الإنسان الآن ، ولا سيما في شرقنا هذا ، فقد أنصرف بكليته إلى المادة ، فنصب لها تماثيل في ساحات مدنه ، وفي أعماق نفسه ، وقدم على مذابحها كل قواه ، ضحية باردة ، وأحرق قلبه بخورا بنار هذه الوثنية المتطرفة ، لا يربأ بنفسه ، ولا يقيم لكرامته الإنسانية وزنا ، أما الروح ، هذا الجزء الشريف فيه ، فقد أهمله إهمالا كليا ، فأصبح لا يعرف قيمة لكل شيء مثالي أو روحاني ، وأنكر روحانيته وعقله وأتزانه ، الأمور التي يجب عليه الإنصراف إليها ، لأنها الأساس في كل أعماله ، سواء مادية أو أدبية أو روحية ، إذ بدونها يكون كريشة في مهب العاصفة .
إن القيم الروحية التي يجب معرفتها اليوم كثيرة جدا ، وكلها ضرورية لحياتنا الحاضرة ، وسنبقى متورطين في أزمات مختلفة إلى اللحظة التي بها نعرف قيمتنا الروحية والأدبية كبشر حقيقيين ، أو كجيل بلغ هذه الذروة من الرقي والكمال ، وإذا ما فهمنا ذلك وأعطيناه حقه من التقدير ، حينئذ نبلغ إلى ميناء السلام .

أن الذي قال :" للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه(مت ٨ : ٢٠) ، علمنا التسامي عن حطام هذه الحياة الفانية ، والأنصراف إلى أعمال الروح وتقدير قيمتها ، كما إنه لم ينهنا بتاتاً من إعطاء" ما لقيصر لقيصر "، أي إعطاء هذه الحياة المادية حقها من الخدمة والإخلاص والعمل ، ولكن بمقدار يتناسب وقيمتها الحقيقية بالنسبة الى الإنسان ، أما القيم الروحية فقد أوضحها لنا بشكل يضمن لنا حريتنا وكرامتنا ، كمخلوقات عاقلة ، وجدت للبقاء والفضيلة والخلود ، فقال مثلا :" " لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض . حيث يفسد السوس والصدأ . وحيث ينقب السارقون ويسرقون ."(مت ٦ : ١٩ و ٢٠ ) .
ومعنى ذلك أن نهتم بكنوز السماء ، أكثر من أهتمامنا بكنوز الأرض ، لأن كنوز الأرض هي عرضة لآفات مادية كثيرة ، وكنوز السماء لا تتعرض لأية آفة ، ولذا يكون الأهتمام بها أكثر من زميلتها ، وبالتالي يجب على الأنسان العاقل أن يهتم بأمور الروح أكثر من أمور الجسد .

ان حاجاتنا المادية ، مهما كانت عظيمة في عيوننا الآن ، هي شيء حقير بالنسبة الى حاجاتنا الروحية ، ونحن كبشر ، قد أنجرفنا بتيار المادة ، وأوشكنا الوصول الى الهوة السحيقة التي لا منجاة منها ، نتجرع كؤوس الألم والعذاب ، لأننا نسينا حقيقتنا الروحية ، فأصبحنا لا نستطيع الوقوف أمام التيار الجارف ، ولو عرفنا تلك الحقيقة السموية ، لأستطعنا مقاومة التيار بشجاعة وثبات ، ولأتينا بنتائج مثلى في الحقلين المادي والروحي .
ان معلمنا الإلهي يفضل دائما ناحية الروح على ناحية المادة ، فيقول : " أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ، ولا لأجسادكم بما تلبسون أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس ؟ مت ٦ : ٢٥ .
وهنا يظهر لنا الفرق بين الضروري والأكثر ضرورة ، فأن " الطعام " ضروري ، ولكن الحياة ـ الروحية ـ أكثر ضرورة منه ، "واللباس " ضروري ، ولكن الجسد أفضل منه ، ويجب على العاقل والحالة هذه أن يهتم بهذا ولا يهمل ذاك .

‫أن حاجات الجسد الضرورية‬ ‫مكفولة لنا ،‬ ‫إذا أستطعنا حيازة الحاجات الروحية لأن‬ ‫الله الذي أوجدنا في‬ هذه الحياة يعرف تلك الحاجات المادية فيؤمنها لنا طالما يرانا متحدين معه بالروح ، ملتصقين بالخير ، مقدرين للمثل الروحية قيمتها الحقيقية ، ولذلك نسمع المعلم يقول :" فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل او ماذا نشرب او ماذا نلبس. فان هذه كلها تطلبها الامم. لان اباكم السماوي يعلم انكم تحتاجون الى هذه كلها. لكن اطلبوا اولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم." (متى ٦ : ٣١ ـ ٣٣ ) هذهِ حاجاتنا الضرورية ، ومن كان له أذنان للسمع ، فليسمع .

( لسان المشرق ، السنة ١ ، تشرين الثاني وكانون الاول ١٩٤٨ ، ع. ٣ و ٤ )

أضف رد جديد