الشعر والفلسفة يتعانقان عند ابن المعدني الشاعر الفيلسوف

أضف رد جديد
تلميذة المطران
مراقب عام
مراقب عام
مشاركات: 114
اشترك في: الخميس إبريل 28, 2011 11:53 am

الشعر والفلسفة يتعانقان عند ابن المعدني الشاعر الفيلسوف

مشاركة بواسطة تلميذة المطران » الأحد يناير 13, 2013 8:48 pm

1 ـ الشعر الفلسفي السرياني :
الشعر السرياني ، شعر الروعة والعظمة والجلال ، وروضة تتماوج فيها أزاهير الدين والفضيلة والتقوى ، متأثرة بنسيمات لطيفة هبت عليها من نفوس ،هبطت الى هذه الارض، شعلا من القداسة والنور، وارتفعت عنها بعد ان عبقت الخافقين بعبيرها المنعش ، ذاك العبير الذي لا زال الى الآن يتضوع في قلوبنا ، ونفوسنا ، ويتمشى بلطف ودلال في كنائسنا ومكاتبنا ومدارسنا ، وقصورنا واكواخنا .
هذا ، اذا القينا نظرة عامة الى الشعر السرياني . أما اذا أردنا حصر أنظارنا في شعرنا الفلسفي ، فلا نعدم شعرا يرفع نفوسنا من حضيض المادة الى الملأ الأعلى لما يتخلله من الافكار الروحية السامية ، والفكر الفلسفية العالية ، والآراء الحكمية العجيبة ، الى ما هنالك من معاني ، السمو والعظمة والكمال .
وشعرنا الفلسفي ثلاثة اقسام كبرى ، قلما جمع بينها شاعر بمفرده ، لذلك نراها مبثوثة هنا وهناك في دواوين شعرنا منذ القرن الرابع الى انصرام القرن الثالث عشر .

القسم الاول :يشمل القصائد الحكمية ، والامثال ، والمواعظ الشعرية ، والتزهيد ، وهذه أمور تتعلق بالدين والأخلاق ، وقد أكثر منها شعراؤنا الاقدمون اكثارا مدهشا بحيث اصبحت كأنها الهدف الوحيد لمعظم الشعر ، اعتبارا من القرن الرابع الى نهاية العصر الذهبي للشعر السرياني .
وفرسان هذا الميدان ثلاثة ، لا يجارون ، ولا يشق لهم غبار ، وهم وان كانوا يتفاوتون بالانتاج ، الا انهم يسيرون في طليعة الرعيل الاول بين جميع شعرائنا الاقدمين والمتأخرين، وهم مار افرام السرياني ، واسحق الآمدي ، ومار يعقوب السروجي .
ان مار افرام السرياني ، يحمل المشعل الشعري الوضاء امام جميع شعرائنا لما هبط عليه من الوحي الالهي في هذا المضمار ، فأصبح قبلة الانظار ،في الاوساط الادبية والروحية للغة السريانية ، فتراه تارة ،كأنه يناجيك من بين ذرات النسيم ، مازجا بين عباراته ارجا عباقا قلما نستطيع تصوره في رياض هذا العالم ، وطورا ، يهدر كالبحر الخضم ، فيملأ قلبك رهبة وخشوعا واحيانا يناديك من أعالي السماء ، كالبوق الرهيب تتبعه صاغرا ، وتود لو تستطيع ترك جسدك هنا ، على حضيض الحياة ، وفوق حطام الدنيا لتطير معه بروحك الى الملأ الأعلى .
أما شعره الحكمي والروحي ، فتراه مبثوثا في معظم قصائده الغزيرة مثل ميمره في
" العلم " حيث يرسل فيه الحكمة سائغة كالماء السلسبيل ،ويقدمها للشباب صافية عذبة بكؤوس من نور ، وفيها من الآيات البينات ن والعظات البالغات ، ما لانستطيع حصره في ابحاث طويلة مشبعة ، وقصيدة " الجوهرة " ويريد بها الايمان ، وقصيدته في سمو الخالق ، وقصيدته في التثليث والتوحيد التي يورد فيها امثالا حكمية مدهشه تصلح ان تسير بين الناس كانفس الاقوال واعلى الحكم ، وبعض ما يقول فيها :ـ
" انى للملاح ان يخضع البحر لإرادته ، لان الملاح يأمل شيئا واللجة تعمل شيئا آخر ، وكأني بالشاعر العربي سرق منه فكرته عند قوله :
" ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن "
الى ما هنالك من الامثال ، والحكم ، والمواعظ ، الامور التي يستحيل حصرها بسطور مثل هذه .
ونرى اسحق الملفان يسير في ركاب استاذه مار افرام ، ويتحفنا بقصائد لا تقل روعة وجلالا عن قصائد معلمه ، لايسعنا في سطورنا هذه المرور على شئ من روعته الشعرية الحكمية ، ومن قرأ قصائده يدرك ذلك .
اما مار يعقوب السروجي فهو الشاعر العجيب الغزير الذي يمسك الطرف الثاني من علم الشعر السرياني تجاه مار افرام ، وقصائده في الاخلاق والمواعظ والتزهيد تدهشك عندما تدخل رياضها العابقة بالارج والسحر الحلال ، او عندما تنزل الى بحره الخضم ، فتهبط الى اعماقه مصعوقا مسحورا لا تلبث ان تنسى نفسك وتتصور ذاتك روحا طاهرة ، مجنحة طائرة بين ارواح الملائكة ، وابطال الحقيقة الخالدين .

أما القسم الثاني من الشعر الفلسفي . وهو الشعر المنطقي ، فيحمل لوائه اسحق وحده، ويتصرف به كيف شائت العبقرية الفذة ،بل ما أمره الوحي الشعري ان يفعل ، وينذرع بهذا النوع من الشعر في قصائده الايمانية التي قرع بها المبتدعين ونعى عليهم افكارهم السقيمة وآرائهم المضادة للحق القويم ، وهذه قصيدته في الايمان تريك شعرا عذبا جميلا تتخلله اقيسة منطقية باشكال كثيرة .

اما القسم الثالث من الشعر الفلسفي ، وهو الدائر حول النفس وحالاتها الروحية ، واصلها، وسيرها في الحياة ، وعروجها الى السماء الى خالقها بشةق وحب عارمين ، وتطهيرها من اردان هذا العالم ، فنرى لدينا فارسين في هذا الميدان ، وهما شاعرنا الفيلسوف ابن المعدني ، والشاعر العبقري الفذ ابن العبري ، وكلاهما يجري فيه نحو الذروة العليا مرتفعا على اجنحة الروح ،حتى يبلغا الى اوج السماء .
ابن المعدني شاعر مفكر،يطلق العنان لتفكيره ، فيظهر لك آفاقا سحرية من الروحية والسمو والجمال ، وابن العبري فيلسوف محلق ، وشاعر مبدع ،لاتسعه آفاق هذه الحياة ،لذلك يطلب في عوالم الروح آفاقا جديدة مشرقة تتلامع فيها شموس الحقيقة ومصابيح الهدى .


2 ـ ابن المعدني الشاعر الفيلسوف
وددنا ان ندرس في عحالتنا هذه " ابن المعدني " كشاعر فيلسوف ، لنظهر للملأ ما يحوزه شعرنا السرياني من العظمة والجلال ، وما يحويه من الافكار السامية التي تجعله بحق في مقدمة الآداب الحية للغات الراقية من قديمة وحديثة .

اطل ابن المعدني على الفلسفة ، لا كما يطل الظمآن الى جدول سلسبيل ، بل كما يطل المرتوي الى روض خضيل ، فقطف منها قبضة من الازهار الملونة ، والرياحين العبقة ، وما هي إلا فترة من الزمن حتى وجدنا بين يديه كأسا مترعة من الرحيق ، يتماوج امام وجه الشمس ، فيظهر تارة احمر قانيا ،وطورا اسود قاتما ، واخرى يكتسب ألوانا فاتحة كلون السماء.
ان التشاؤم صفة خاصة ، لازمت شعراء الشرقيين منذ اقدم عصور الشعر عندنا ، ولهذا اللون من الشعر روعته وهيبته في نفوسنا نحن الشرقيين ، وقلما نجد شاعرا لا يبكي او يتشاءم ، ولا سيما اولئك الذين كانت حيلتهم سلسلة من المآسي والكوارث ، فبكت عيونهم ما طاب لهم البكاء ، وتدفقت آلامهم قطعا دامية من مهجهم ، فهبطت أودية هذه الحياة وجبالها ، ورياضها وسحابها .
وكان شاعرنا الفيلسوف ، احد الذين عاشوا في عصر كثرت فيه المآسي على مسرح الحياة البشرية ، وكان لا بد له من الاصطباغ بهذه الصبغة الداكنة من التشاؤم .

3 ـ قيمة الحياة
يرى فلاسفة التشاؤم هذه الحياة ، سلسلة من المآسي الدامية ، اولها شقاء و آخرها فناء ، تتساوى افراحها واتراحها في كفتي ميزان الزمن ، " وشبيه صوت النعي اذا قيس بصوت البشير في كل ناد . "
يرى شاعرنا الفيلسوف كل ذلك ، فيهوله الأمر ، ويطلق في وجه الحياة صرخة مدوية، تتجاوب أصداؤها في مهامه الدهر وغياهب الزمن فيقول:" انها تضحك اليوم لتبكي غدا بمكرها ، فطوبى لمن استطاع الافلات من عثراتها . "
هذه هي الحياة في عينيه ، مزيج من الخير والشر ، النور والظلام ، والافراح والاحزان ، فما قيمتها يا ترى ؟
لا قيمة للشجرة الوارفة اذا كانت لا تصلح ان تكون ظلا للهائمين والمتعبين ،و لا اهمية للجدول السلسبيل اذا ماتت الطيور الصغيرة على ضفتيه ظمأى، وذابت شوقا وحنينا، ولا بارك الله في زهرة منعت النسيم من ان يحمل عبيره الى نفوس البائسين .
هذه هي الحياة بعينها ، يصورها امامنا الشاعر الفيلسوف ، يتضاد فيها الخير والشر ، ويتساوى لديها الطيب والخبيث ، بل انها تفضل غالبا الشر على الخير ، والظلام على النور " ما أردأ الحياة لان فيها تكتظ المتناقضات ، والشر يصرخ بوجه الخير كعدو لدود ، يتمتع
الغراب متنقلا بين المروج والغابات والانهار ، ويقضي البلبل الغريد سجينا في الاقفاص. "
إذن لا قيمة لكل شئ في هذه الحياة ، طالما كل شئ زائل ، وكل شئ باطل ، فابتسامتها عويل ، وجمالها بشاعة ، وصدقها كذب ، ونورها ظلام ،لان كل شئ فيها ينذر بالفناء .فاسمع فكرة شاعرنا الفيلسوف في ذلك : " القمر الجديد يرمز الى فناء حياتي ، ومع ذلك تراني أفاخر به و أفرح بجماله ، يولد فيتكامل ، ويهرم ويزول ، مشيرا الى النهاية ، والناس لاهون بأباطيلهم دون خجل او حياء ، الحمل مطروح تحت المقصلة ، ورفيقه يمرح ،الناس منهمكون بشهواتهم ، والموت ينهب . "
ان كل شئ يراه شاعرنا في هذه الحياة من جمال وفتنة ، إنما يرمز بعرفه الى الفناء والزوال، لذلك لا يرى شيئا يستحق التقدير فيها طالما " تضحكك اليوم لتبكيك غدا ، وتلمس خدك الايمن بيسراها لكي تصفعك بيمناها . " ولو قرأت قصيدته " الليل " لأتضح لك مذهبه في التشاؤم ونظره الى الحياة ومطلعها : " ان الاصباح والامساء تروي قصة الموت والحياة" ثم يمضي في اظهار جلال الليل ورهبته . ورموزه الداكنة الدالة على الموت والفناء حتى يأتي الصباح فيطلع النور ، وهو لديه رمز الى القيامة " ان ( الصباح) يرسم لنا يوم القيامة العظيم ، ويدلنا كيف ينال كل انسان جزاء اعماله من العدالة . "

4 ـ قيمة الحرية
الحرية كالسعادة ، عنقاء الحياة وسرابها ، لايلبث الانسان يبحث عنها في مجاهل هذا العالم فلا يجدها منذ اللحظة الاولى ،حتى تغيبه الايام وراء سجف الموت الكثيفة ، وفي كل مرة يظن انه قد توصل اليها ، الا انه يدنو من مأمله حتى يراه سرابا خداعا ، ووهما لا حقيقة له ولا وجود ، ومهما حاول وجودها في هذه الحياة ، تذهب جميع محاولاته ادراج الرياح . فيعود الى كوخه بصفقة المغبون ، وسيبقى كذلك حتى يعود الى نفسه ذاتها ويغوص في اعماقها ، فيجردها من الشر والأنانية ويبعدها عن المكر والخديعة والوقيعة ، وحينئذ يرى الحرية بأم عينيه يراها في ثوبها الطاهر الحقيقي .
تنجلي هذه الحقيقة لشاعرنا الفيلسوف ، فيتصور النفس بعد هبوطها من عليائها مكبلة بأغلال حديدية لا تستطيع تحطيمها إلا اذا تحطمت على شواطئها الصخرية جميع رغباتها المادية وعادت الى طبيعتها الاولى فاستعادت طهرها ونقاءها ، وحينئذ تتبدد امامها سجف الدخان الكثيفة المتصاعدة من أتون المادة وغابات هذا العالم المحترقة ، فترى الله وجها لوجه ، وهذه هي الحرية الحقيقية التي تتوق اليها النفس منذ فجرها الاول .
خلقت النفس منذ البدء حرة طليقة ، ووجدت بحالة الطهر والقداسة ، وهذا هو السبب الوحيد في حريتها ، إلا انها " هبطت من علياء قداستها " الى هذه المادة ،فأتحدت بها واتخذت منها طبيعة جديدة ، هي طبيعة الشر ،وهذا هو القيد الحقيقي الذي أفقدها حريتها وأنساها أنطلاقها في عالم المعقولات .
يصور شاعرنا الفيلسوف هذه الحالة ، بطريقة شعرية ساحرة ، فيتخيل النفس حمامة طاهرة، انحدرت مشغوفة بهذا الجسد الكثيف ، وفقدت بذلك عزة نفسها ، واضاعت حريتها " هبطت اليك الحمامة الجميلة ، من علياء القداسة مجذوبة مشغوفة بالاتحاد "(*)

(*) هناك مناسبات قوية بين هذه القصيدة وقصيدة ابن سينا الشهيرة :
" هبطت اليك من المحل الأرفع ورقاء ذات ترفع وتمنع "
إلا ان الشاعر السرياني لديه عناصر جديدة وأفكارا سامية ، لانجدها عند الشاعر العربي .


وكأني به يراها بجمالها الروحاني ، متربعة عرش السماء ن بعيدة عن ادران هذه الحياة ، الا ان هبوطها يؤدي بها الى عاقبة سيئة " كان محياها محجوبا وراء سجف الحياء ، ولكنها مزقت بها هاتيك الحجب . "

ثم يهبط معها الى أرض الخطيئة ، فيراها متحدة بالمادة الكثيفة ، بعد ان فقدت حياءها وقداستها ، يراها في غمرة الحسرة واليأس تريد الانطلاق الى عالمها الازلي مرة اخرى
" سئمتك ، بعد ان تذوقت مرارة الاتحاد ، وأخذت تبحث لها عن طريقة تنفصل بها عنك كما تفعل العشيقة النافرة ، سئمت العبودية لأنها خلقت حرة " .
تبا لهذا الجسد الكثيف ، انه قيد حديدي صارم ، يراه الشاعر في رجليها وهي مصعوقة لا تستطيع الحراك ، فيتبدل لديها كل شئ ، السعادة بالبؤس ، والنور بالظلام والحرية بالعبودية
" أنساها الألم مسارح الغبطة ، نسيت ذاتها وموطنها الأزلي كالمجنونة ، وتبدل لديها عرش الحرية بذل السقوط ، بعد ان كانت تعانق طهرها وهي حرة " .
ثم يرى بؤسها وشقاءها فيرثي لحالها ، ويحاول ان يكفكف دموعها إلا ان انامله تخونه فيقف بقربها باكيا مولولا وهذه عبراته : ـ " هبطت الحمامة الكريمة من عليائها ، فانكسر جناحها في حضيض الوهدة ، هبطت البائسة من علياء سمائها ، وهي الآن غارقة بدموعها الللاهبة."
لا زال ينظر اليها ويقرأ أفكارها ، ويرى جنحها المكسور ، يحاول الصعود بها مرة اخرى في هذا الجو الساجي ، الا ان القوة تخونها ، فتبقى في وهدتها السحيقة . " ذكرت المقهورة ايام عزها ومجدها الذاهب فبكت على نفسها بكاء مرا ، أعدت لها الطبيعة اشراكا قاسية فكبلت عنقها ، فقعدت عن الصعود والانطلاق الى سمائها الاولى . "
ولا زالت البائسة في صحرائها القاحلة تذرف الدموع الغزيرة ، لعلها تروي غليلها الجائش من هذه القطرات اللاهبة ، الا ان هذه الدموع تجف تحت حرارة الشمس المحرقة في هذه البيداء المقفرة ، وتحت هذه الاشعة اللافحة " هبت نسمات الربيع على مروجها الذابلة ، فمسحت دموعها لتسقي الزهور فتعيد اليها جمالها ، حتى تترك منفاها الصارم عندما تناديها أبواق الحرية " .
الى هنا ، كانت النفس البائسة ، في حضيض آلامها ، وفي أغلال شرورها تصرخ ولا مجيب ، فتذهب دموعها وتنهيداتها أدراج الرياح ، لأنها مأسورة للبشر ، مستعبدة للخطيئة، ساقطة تحت أثقال المادة الكثيفة ، غير ان الفيلسوف الشاعر ، يراها تتململ رويدا رويدا، فتنفض عنها غبار المادة وتذريها في الرياح الساقية ، هنا تشعر بمرارة العبودية ، وعذوبة الحرية الأمر الذي لم تكن تستطيع الشعور به وهي في أوج مجدها ترفل في مسارح حريتها، غير ان السقطة علمتها درسا في حب الحرية وتقدير قيمتها ، وهذا ما يقدمه انا شاعرنا الفيلسوف مسكوبا بكؤوس من الشعر الجميل .
هنا تبلغ النفس غايتها من العبودية والسقوط ، فتقطع الاغلال ، وتحطم القيود ، وتثوب الى رشدها نشيطة قوية فيراها الشاعر " تقطع أودية الشقاء بشجاعة واقدام ، فتشق لها طريق الظفر بأنغام اللهيب " .
ثم نراها ترفع رأسها نحو السماء ، فاتحة عينيها للنور الجديد ، وإذا بالغيوم الكثيفة تنقشع ، والظلمات الدامسة تتبدد ، فينجلي السر المختفي عن البصر لهذه النفس البائسة " واذا انقشعت حجب الظلام الكثيفة ، ترى السر المخفي عن العين الحسية " .

ثم نلحظ في كلام الشاعر بادرة جديدة هي ، ان المعرفة واسطة أولية لتحطيم أغلال النفس ، وتقطيع قيودها ، بينما الجهل هو السبب في سقوطها وأسر حريتها ، فأول شئ يراه الشاعر في النفس بعد انطلاقها من اسرها كونها واقفة على شجرة المعرفة ترسل في الجو أنغام الظفر والخلاص ، يقول : " تراها مغردة على شجرة المعرفة ترسل أناشيد ساحرة تبدد عنها المخاوف " . وفي أبياته التالية يوضح بجلاء مكانة المعرفة بالنسبة الى انطلاق النفس فان الحكمة او المعرفة هي اليد القوية التي حطمت قيودها ، وأطلقتها حرة امام وجه الحياة
" فسواء أكان (سقوطها)اراديا او قسريا (حرا او غير حر )فان الحكمة وحدها ارتفعت عليهما جميعا " .
لم يكن سقوطها هذا فارغا لا معنى له ولا فائدة ، فأن النفس البشرية جنت منه فوائد جليلة، و تعلمت دروسا خالدة ، وأصبحت تقدر قيمة الحرية بحسبما هو لا بحسب ما يتراءى للعين البسيطة ، في انها تذوقت مرارة العبودية ، فعرفت من ذلك عذوبة الحرية ، وبالتالي فهمت قيمتها ،ولولا سقوطها ، لما شعرت بلذة النهوض ، ولما عرفت معنى للظفر والخلاص يقول الشاعر : " انها نالت من سقطتها درسا في التأديب والتقويم ، وغلبت بالروح ذلك الذي ظفر بها منذ القدم " .
ثم لم يكتف بهذا الدرس في الحرية ، بل جعلت هذه الحرية هدفا تخطته بعد المرور على جملة من الفضائل أهمها التواضع ، فان السقطة المروعة كانت درسا في التواضع لهذه النفس التي أغواها جمالها ، وبهرها طهرها ، وشعرت بشئ من العجرفة الامر الذي كان سببا مهما في سقوطهما ، وهكذا وهي في غمرة السقوط تعلمت أمثولة جديدة هي الوداعة والتواضع " تعلمت بسقوطها نظام التواضع وبواسطة هذا التواضع وطأت تحت أقدامها علياء السماء " .
ثم تخطت من هذا الدرس الاولي الى درس آخر أكثر سموا وأعظم معنى من جميع الدروس،الا وهو اطلاعها على خفايا الروح ، ومعرفة الامورالمزمعة ، هذه المعرفة التي لا تتجلى إلا للانبياء والكاملين الذين اتحدوا بالله اتحادا كاملا " انها تلقنت من التجربة الاسرار الإلهية ، وتعلمت من الدهر جميع الخفايا والمزمعات " .
هنا يعود الشاعر الى " تقدير قيمة الحرية " مرة اخرى لكي يبرهن على عدم معرفة النفس بهذه القيمة قبل السقوط ، فيؤيد ان النفس الحرة استهانت بحريتها يوم كانت ترفل بأثواب المجد متمتعة بسلطتها الذاتية ، وما هي إلا برهة حتى نراها تفقد حريتها فتفقد معها كل سئ وتهبط الى الأسر مقهورة مغلوبة على امرها " ولما امتحن تقديرها للحرية ،هبطت الى السبي مأسورة باغلال قاسية ".
وهنا في السبي تحت وطأة الأغلال، تشعر النفس المسكينة بمرارة العبودية، وآلام الرق ، فتثوب الى رشدها ، وترسل في الجو انات مؤلمة كانت أجنحة لها ، فطارت بها في سماء السعادة مرة اخرى بعد ان فقدتها يوم فقدت حريتها . يقول الشاعر : " ولكن تنهيدها المؤلم منحها قوة الخلاص والافلات ، وصار لها واسطة للتجديد والتصعيد " .
ومعنى ذلك ان ندامتها الكاملة ، وحبها للحرية ، وشعورها بمرارة الاستعباد ودموعها ، كانت لها كأجنحة أنقذتها مما كانت عليه من الذل والهوان ،فاستطاعت ان تجمع قواها وتطير مرة اخرى الى حيث الحرية الكاملة المليئة بالخير .
وهنا ،بعد مضض العبودية ، وذل الأسر ،صارت النفس البشرية تعرف كيف تقدر قيمة حريتها الجديدة ، وسعادتها المستعادة .
بعد ان ينتهي الشاعر من اطلاعنا على وصول النفس الى سعادتها الخالدة يقف امام هذه السعادة مشدوها مفكرا بما كانت عليه في موطن الذل وربوع الشقاء ، فيرسل آخر شعاع من فكرته الوضاءة ، متحيرا في سبب سقوطها ، وهو لا يدري أهي المادة هبطت بها الى الحضيض ، ام هو الموت بسط عليها نقابه المظلم ، فزجها في أعماق الظلام ، غير انه يعود فيؤكد ان كل ذلك لا أهمية له طالما عادت الى فردوسها المفقود " أما انا فلست أدري هل كانت الكثافة سببا لسقوطها ، او هو الموت ، ولكني رأيت عند ابتعاد النفس من هذين الشيئين " المادة والموت " انها عادت الى الكرامة التي خلقت لأجلها منذ البدء " .
اما انت فعندما تصل الى مشاهدة النفس تعود الى فردوسها المفقود ربما يخامرك شك ، او تريد صرف نظرك عن هذه المعاني الروحية التي أتاك بها من عالم الشعر الجميل فيقول لك : " اما انت يا ابن الأدب فاسمع نغماتي ، واذا شككت بشئ منها فلذ بالصمت " .
ومعنى ذلك ان هذه التعاليم لا اعتراض عليها لاني لم أتلقها من هذا العالم المادي ، او من تعاليمه المثقلة بالكثافة ، بل هي نغمات تلقيتها من عالم جديد ،هو عالم الروح ، وأمور تعلمتها من همسات خفيفة أتتني بها ملائكة الشعر الروحي من فردوسنا المفقود .
اما " قيمة الحرية " التي يريد اطلاعنا عليها الشاعر الفيلسوف ،فنستطيع أن نلمحها من سياق كلامه في أمر سقوطنا ، وهبطت الى عالم المادة ثم من الدموع الغزيرة التي ذرفناها تحت أثقال أغلالنا وقيودنا القاسية ،ثم من ارتفاعنا مرة اخرى الى عالم الروح بعد ان ننقذ نفسنا من أدران العالم واوضار الحياة ،وتطهرت من ادناس الأرض ، ثم دخولنا الى
"حظيرة الخراف " من جديد وتغريد نفسنا على شجرة "المعرفة".
هذه كلها أمور وان كانت رمزية ،الا ان الشاعر أراد بها اطلاعنا على قيمة الحرية بواسطة " قصة السبي " التي قدمها لنا عن هذه النفس المغلوبة عن أمرها .
الحرية عذبة ثمينة ، لا يشعر بعذوبتها إلا من انتزعها انتزاعا ، من مخالب هذه الحياة المرة القاسية ، بعد جهاد مستميت وبطولة وشجاعة يصرفها في سبيل هذه الدرة الغالية .
الحرية ، تؤخذ ولا تعطى ، لذلك يروي لنا الشاعر خبرا فيه عظمة وجلال ، وفيه مجازفة وجمال ، ويطلعنا على الاتعاب التي بذلتها النفس المغلوبة في سبيل " أخذ " حريتها المسلوبة مرة أخرى ، وهذا لعمري درس بليغ للذين يريدون ان يعيشوا أحرارا في هذه الحياة .
وهناك درس آخر في معنى هذه الحرية التي يقصدها شاعرنا الروحاني فليس معنى ذلك تنقل هذه النفس في مستنقعات الحياة وحمآتها الآسنة ، بل هي التنقي من الشر ، والابتعاد عن الرذيلة ، وهذه هي الحرية الحقيقية التي يريدها شاعرنا الفيلسوف .
ان كل حرية في هذه الحياة هي باطلة ، طالما تكون حافزا لعبث الانسان في مقدرات الروح، وليست الحرية الحقيقية إلا الاتحاد بالخير ، والتحرر من الشر ، والتصاعد في معارج الفضيلة والكمال ، وهذا ما أراده الشاعر في قصيدته هذه .

أضف رد جديد