" رسالة الصوم " من مجلة لسان المشرق التي انشاها شباط فبراير ١٩٥٠

أضف رد جديد
تلميذة المطران
مراقب عام
مراقب عام
مشاركات: 114
اشترك في: الخميس إبريل 28, 2011 11:53 am

" رسالة الصوم " من مجلة لسان المشرق التي انشاها شباط فبراير ١٩٥٠

مشاركة بواسطة تلميذة المطران » الثلاثاء يوليو 19, 2011 1:49 pm

ليس بالخبز وحده يحيا الانسان ، بل بكل كلمة تخرج من فن الله ، متى 4:4
ليس الصوم مجرد الانقطاع عن تناول الطعام والشراب ، او اذلال هذا الجسد المسكين الذي تذله آلام الحياة واتعابها ، وتهدمه مصائبها واهوالها او قهر النفس ، هذه النفس التي منحنا اياها الله لاحيائها وانعاشها ، هذا وحده ليس بالصوم الحقيقي اذا رجعنا الى الصوم المثالي الذي صامه معلمنا ومرشدنا الاوحد السيد يسوع المسيح ، بل ان هناك امرا اسمى من الطعام ، وأجل من الجسد ، واقدس من النفس ، هذا الشئ الوحيد هو المثول امام الله بقلب مفعم بالنور والايمان ، وروح تتسامى عن كل شيء في هذه الحياة ، لتتصل بالله عن طريق التشوق الروحي ، والاستغراق بالحب الاسمى ، والاعراض عن كل شيء في هذه الدنيا ، واذا ما عانقت تلك الحالة الروحية السامية تنقطع من ذاتها عن الطعام والشراب ، وتسمو على الجسد واهوائه ، وتموت عن هذا العالم لتحيا لله ولله وحده ، هذا هو الصوم الحقيقي الكامل الذي علمنا اياه معلمنا الالهي .
لنتركن الواقع برهة من الزمن ، ونرجع بروحنا ألفي سنة الى الوراء ، ونتوقل جبلا من جبال فلسطين المطل على اورشليم المدينة المقدسة ، لنرى " المعلم" هناك يلقي علينا درسا خالدا في الصوم الحقيقي الكامل الذي يريده . انظره يتوقل الجبل بقدمين عاريتين إلا من النور ، وجسم نحيطه هالات من القداسة وجبين يسطع نبلا وطهرا ونقاء ، وعينين صافيتين يتالق فيهما ضياء ازلي ينحدر من لدن الاب السماوي ، انظره بهذه الحالة الجليلة وامامه عدو الخير ، يزين له ثلاثة امور ، ، طالما احرقنا قلوبنا بخورا على مذبحها منذ فهمنا هذه الحياة التاعسة ، ولكن " المعلم " يتغلب عليها بطرفة عين ويخرج من المعركة سيدا ظافرا ، بينما يطوي المجرب جناحيه السوداوين المرعبين ويلوذ بالفرار... كان الشيء الاول الذي زينه عدو الخير " للمعلم " هو محبة البطن هذا الامر الذي لازال يزينه لنا في كل لحظة من لحظات حياتنا " ان كنت ابن الله فقل ان تصير هذه الحجارة خبزا " ولكن " المعلم " كان اسمى من " الخبز " وارفع من الانصياع للمحتال الذي ننصاع له نحن ، ونطلب ان تنتقل هذه الحجارة خبزا غير عالمين ان " الاطعمة ،
للجوف ،والجوف للاطعمة والله سيبيد هذا وذاك ، 1 كو 13:6 وليس معنى ذلك ان "الطعام" حرام ، لا ، لم نؤمر ان نمتنع عن ( اطعمة خلقها الله لتتناول بالشكر من المؤمنين وعارفي الحق لان كل خليقة الله جيدة ولا يرفض شيء اذا اخذ مع الشكر لانه يقدس بكلمة الله والصلاة ـ "تيموثاوس 3:4 "بل الغاية من ذلك التسامي عن الطعام والتعلق بمحبة الله ، وبان لايجعل الانسان ان يتسلط عليه الطعام " كل الاشياء تحل لي لكي لا يتسلط علي شيء اكو 12:6 " وهكذا نسمع "المعلم" يصرخ بوجه المجرب الخبيث ويقول "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله " وهذه الكلمة دستور لنا في هذه الحياة ، دستور التجرد والتسامي عن اطايب الحياة ومغرياتها .والامر الثاني الذي اراده عدو الخير من "المعلم" هو الاستهانة بالنفس الثمينة وتطويحها في المهالك والمخاطر لتجربة الله الذي امر بصيانتها من كل اذية ومجازفة فارغة " ثم اخذه ابليس الى المدينة المقدسة واوقفه على جناح الهيكل وقال له ان كنت ابن الله فاطرح نفسك الى اسفل لانه مكتوب انه يوصي ملائكته بك فعلى اياديهم يحملونك لكي لاتصدم بحجر رجلك " ، ولكن المعلم الالهي كان اسمى حكمة من المجرب ، فصفعه الصفعة الثانية بقوله " مكتوب ايضا لا تجرب الرب الهك " وكان هذا درسا ثانيا من دروس المحافظة على قدسية هذا الكيان الانساني الذي منحنا اياه الخالق جل جلاله . والدرس الثالث في هذه التجربة كان ابلغ جميع الدروس ،وقد يجرب به كل انسان ، فتستهويه العظمة وتغريه الكبرياء ، ويجتذبه المجد الباطل الا ان " المعلم " كان بغنى عن هذا المجد " الباطل " لانه " رب المجد الحقيقي " ، فاترك اذن مجد هذه الحياة ، واباطيل هذه الدنيا واسمع مرة اخرى ان ابليس اخذه ايضا الى جبل عال جدا واراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له : اعطيك هذه جميعا ان خررت وسجدت لي "
ان كل شيء في هذه الحياة لا يساوي برهة صغيرة واحدة يقضيها المؤمن تحت اكناف ربه ، لأن الحياة تزول ، وهذه الدنيا تفنى ، واما التمتع بمحبة الله، والايمان به ،فلا يزول ولا يفنى ، ولذلك كان جواب الرب لمجربه قاطعا صريحا لايقبل التفسير ولا يحتاج الى تأويل " اذهب ورائي ياشيطان لانه مكتوب للرب إلهك تسجد ، وله وحده تعبد " وهذا هو الدرس الاخير في العبادة الحقة ، وعدم الاشراك بالله " للرب إلهك تسجد وله وحده تعبد" " هذه الكلمة قالها يسوع تنبيها للذين كانوا مزمعين ان يعبدوا اباطيل هذه الحياة ،ويشركوا مجد الله بمجد هذه الدنيا الفانية ، لذلك نبههم مرة اخرى وقال : " لايقدر احد ان يخدم سيدين ،لانه إما يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر : لا تقدرون ان تخدموا الله والمال مت 24:6 "
فالصوم اذن ليس مجرد الانقطاع عن الطعام ، بل احتقار كل شيء في هذه الحياة لاجل الله ، والتسامي فوق جميع أباطيلها وأمجادها الفانية والاكتفاء بمجد الله ، وهذا هو الصوم الحقيقي ، بل ان الصوم الحقيقي هو الاهتمام بما يبقى من حقائق الامور الروحية وجواهرها والتسامي فوق الامور المادية " لذلك اقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون اليست الحياة افضل من الطعام ، والجسد افضل من اللباس؟ مت 25:6 " ومعنى ذلك ان نفضل الامور الروحية على المادية ، ونهتم بالاولى اكثر من الثانية لذلك امرنا ان نتشبه بطيور السماء ، وزنابق الحقل كيف تنمو ولا سليمان في مجده لبس كواحدة منها فاذا كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غذا في التنور يلبسه الله هكذا أفليس بالحري جدا يلبسكم انتم ياقليلي الايمان "
وقد حثنا على التسامي ، والحصول على حاجتنا الروحية اكثر من الارتباك بالتماس حاجتنا الزمنية ،وعلمنا ان تلك افضل من هذه باضعاف كثيرة وليس معنى ذلك ان يعلمنا على الكسل والتواني ، وعدم تحصيل رزقنا الضروري بل الاهتمام بالامور الروحية اكثر من الحاجات المادية فاسمعه يقول " فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل او ماذا نشرب او ماذا نلبس ، فان هذه كلها تطلبها الامم لان اباكم السموي يعلم انكم تحتاجون الى هذه كلها ، لكن أطلبوا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم مت 31:6ـ34 "
واما الارتباك بامور الحياة الدنيا ، والانغماس في لذاتها ، والتمادي في النهم والشراهة وما اليها فهي امور ليست من الايمان بشيء ، ويربأ المؤمن الحقيقي بنفسه ان يكون خاضعا لها خضوع العبد الذليل لسيده الجبار ، فالمؤمن ليس عبدا الا ِلله ، واما هذه الحياة بما فيها من الملذات والاطايب فهي ذليلة تحت قدميه يسحقها بقوة ايمانه ، ويسمو عليها بروحيته المستمدة من فوق .
قد امرنا الرب ان " نتامل طيور السماء وزنابق الحقول " هذه المخلوقات التي تحوز حرية كاملة في هذه الحياة ، وهي لا تخضع حريتها الكاملة هذه لشهواتها واهوائها ، بل هي تخضع هذه الاهواء والشهوات للحرية ، فيمنحها الله حاجاتها الضرورية على ضآلة قيمتها في الحياة لكي يتخذ الانسان منها درسا قيما في تصرفه بحريته واستعمالها لا للهبوط الى دركات المخلوقات العديمة العقل والروحية ، بل للتسامي الى مصاف الكائنات الروحية . وهذا درس خالد للذين يحبون الدروس الخالدة .

أضف رد جديد